الفهرس
الفصول الأولى من حياة المهرِّج جون واين جايسي
تشارك الجيران الاحتفال مع السيد والسيدة “جايسي” في السابع عشر من مارس من عام ١٩٤٢؛ حيث رزقت “ماريون إيلين روبنسون جايسي” و”جون واين جايسي” (الأب) بطفلهما الذكر الأول في ولاية شيكاغو، حيث كان “جون واين جايسي” (الابن) هو الأبن الثاني، بفارق عامين بينه وبين شقيقته الكبيرة “جوان”، وبعد عامين من مولده رزق أبواه بشقيقته الصغيرة “كارين”، لينشئ الأبوان أطفالهما على المذهب الكاثوليكي، والتحق جميعهم بمدرسة كاثوليكية قرب مسكنهم بشمال “شيكاغو”،
كان من المعتاد في تلك المنطقة عمل الطلبة بوظائف مؤقتة أثناء الدراسة، ولم يكن “جون” الابن بالاستثناء؛ حيث عمل بالعديد من الوظائف إلى جانب فرق الكشافة التي كان يحضرها، يعمل في بيع الجرائد تارة، كصبي تغليف في محل بقالة تارة، وأحيانًا موظف بمخزن، وعلى الرغم من أن “جون” لم يكن فتى لامعًا في المدرسة، لكن مدرسيه أحبوه لذكائه، كما أحبه زملاؤه بالكشافة أيضًا، ليكتسب بعض الأصدقاء مستمتعًا بالجولات الكشفية والرحلات التي يقوم بها مع أصدقائه، كان “جون” طفل طبيعي، فيما عدا علاقته بوالده وبعض الحوادث التي عانى من آثارها فيما بعد،
عندما كان “جون” الصغير في الحادية عشرة، اصطدمت رأسه بأرجوحة أثناء لهوه بأخرى، سببت له الحادثة جلطة في المخ، لكنها لم تكتشف الا بعد بلوغه السادسة عشرة، ومن سن الحادية عشرة إلى السادسة عشرة عانى “جون واين” الصغير من حالات فقدان وعي متكررة نتيجة تلك الجلطة، لكنها كانت تختفي علي الفور حينما يتعاطى دواءه الذي يخفف من آثار الجلطة، وفي سن السابعة عشرة، شخَّص الأطباء مرض مجهول في القلب لديه، وكان يذهب للمستشفى مرات عديدة في حياته نتيجة هذا المرض، لكن لم يستطع أيّ من الأطباء تحديد سبب الألم الذي يعانيه مُطلقًا، وعلى الرغم أنه اشتكى كثيرًا من هذا المرض لاحقًا “خاصةً بعد اعتقاله”، لكنه لم يعانِ من أزمات قلبية طيلة حياته،
وفي أواخر سن المراهقة، بدأ “جون” في الشجار مع والده، لكن علاقته بأمه وشقيقتيه ظلت طيبة ووطيدة، وكان “جون واين” الكبير مدمنًا علي الكحوليات ، يعتدي على زوجته بالضرب كثيرًا ويعتدي بالألفاظ الجارحة على أولاده طول الوقت، وعلى الرغم من كون أبيه شخصية كريهة غير قابلة للمعاشرة، لكن “جون” الصغير أحب والده كثيرًا، وظل يحاول كسب وده وجذب انتباهه، لكنه للأسف لم يستطع الاقتراب من والده حتى وفاة الأخير، الشيء الذي ندم عليه طيلة حياته.
يأس “جايسي” من إنهاء دراسته الثانوية بعد مروره على أربع مدارس مُختلفة و رسوبه المتكرر بها، ليترك المدرسة الثانوية وينتقل إلى “لاس فيجاس”، ليعمل في البداية حارسا لقاعة جنازات، حيث كان يقوم بوظائف متواضعة لم يرَ أنها تليق بإمكانياته الحقيقية، ولم يكن سعيدًا أبدًا في “فيجاس” لأنه لم ينجح في شغل وظيفة محترمة، فحاول باستماتة جمع مبلغ من المال يعود به إلى مسقط رأسه، ولم يكن ذلك سهلاً؛ حيث استغرق ثلاثة أشهر لجمع ثمن التذكرة التي أقلته أخيرًا إلى “شيكاجو” مرة أخرى، لتستقبله أمه وشقيقتاه بترحاب وود،
رجل مبيعات من الطراز الأول
وعلي الفور بعد عودته من “فيجاس” في أوائل الستينيات، التحق “جايسي” بكلية إدارة الأعمال، ليتخرج بعدما اكتشف مهاراته في فنون ومهارات البيع، كأنه ولد ليكون رجل مبيعات، حيث كان يملك قدرة جيدة في الإقناع ولباقة في الحديث تؤهله لتلك الوظيفة، ليستخدم مهاراته ويحصل على وظيفة بمتجر “نان بوش” للأحذية، الذي سرعان ما ترقّى فيه حتى وصل لمنصب مدير منفذ بيع “سبرينج فيلد” بولاية “إلينوي”، وفي نفس الوقت أعلنت متاعب “جايسي” الصحية عن نفسها كعائق في حياته، حيث زاد وزنه بصورة غير طبيعية، ليعاني مشاكل أكثر خطورة بسبب علة قلبه، وزاد الأمر سوءًا عندما دخل المستشفى لاحقًا لإصابة في عموده الفقريّ، لتشكِّل متاعب “جايسي” الصحية مع وزنه الزائد ومتاعب قلبه وظهره عائقًا لا بأس به حتى نهاية حياته، لكنها لم توقفه عن عمله ولا نشاطاته الأخرى،
حينما كان في “سبرينج فيلد”، اشترك “جايسي” بالعديد من المنظمات المُهتمة بالنشاط الاجتماعيّ؛ مثل نادي “تشي رو” الذي كان رئيس مجلس إدارته، والمجلس الكاثوليكي الذي اشترك بمجلس إدارته، ومنظمة الحقوق المدنية الفيدرالية لولايتيّ “إلينوي” و”شيكاجو” حيث شغل منصب القائد بالأخير، وعضوية “الهيئة الأمريكية لإعداد الشباب” –منظمة غير ربحيّة لإعداد الشباب للتجاريات والإداريات وبعض النشاطات الخيرية العالمية- التي خصَّص لها “جايسي” أغلب وقته ليصبح أول رئيس مجلس إدارة لها وانتخب وقتها “رجل العام”،
كانت “مارلين مايرز” زميلة العمل هي الزوجة التي اختارها “جايسي” عام ١٩٦٤، والتي امتلك أبواها بعضا من سلسلة مطاعم “كنتاكي فرايد تشيكن” للوجبات السريعة في “واترلو” بولاية “أيوا”، ليعرض “فريد مايرز” على زوج ابنته منصبًا بأحد فروع مطاعمه، لينتقل “جايسي” وزوجته بعدها بفترة قصيرة للإقامة في “أيوا”، لتحمل الحياة الكثير من الأمل لـ”جايسي” في هذه الفترة، حيث بدأ العمل لدى والد زوجته مُتعلمًا أصول العمل من الصفر، ليعمل لمدة اثنتي عشرة ساعة باليوم تزيد أحيانًا إلى أربع عشرة، كان مجتهدًا راغبًا في تعلم المزيد طامحًا في إدارة سلسلة المطاعم بأكملها ذات يوم، وفي وقت راحته، كان “جايسي” يقوم بأعمال المنظمة الخيرية بفرعها في ولاية “أيوا”،
وكان “جايسي” يحاول ايجاد الوقت بين عمله الأساسي والخيريّ ليقضي وقتًا ممتعًا مع زوجته، حيث رزق في هذه الفترة بابنه الأول ثم ابنته بعدها بفترة وجيزة، كان “جايسي” يملك كل مقومات السعادة في أعوام إقامته الأولى في “أيوا”، فقد امتلك منزلاً جيدًا في الضواحي يسكن فيه مع عائلة مُحبّة في بيئة صحيّة، واستمتعت “مارلين” بتربية أولادها وكان “جون” سعيدًا ، حتى أنه خاض انتخابات رئاسة مجلس إدارة المنظمة وبدأ حملته الانتخابية وقتها، بدت الحياة وردية في عين “جون واين جايسي”، لكن حظه السعيد لم يكن ليدوم فترة أطول، حيث بدأت الشائعات تتناقل في المدينة الصغيرة حول حياته الجنسيّة؛ حيث وضح اهتمام “جايسي” بالمراهقين من الأولاد، وبدأ تناقل الحكايات حول استغلاله لفتيان من العاملين لديه بسلسلة مطاعم الوجبات السريعة، لكن لم يصدق أحد تلك الشائعات وقتها، حتى عام ١٩٦٨ التي تحوَّلت فيه تلك الشائعات إلى حقائق!
ميول جنسية شاذة
في ربيع العام ١٩٦٨ استدعي “جايسي” للوقوف أمام قضاء بلدة “بلاك هوك” كمُتهم، باغتصابه لمُراهق يُدعى “مارك ميللر”، ليُخبر “ميللر” القاضي بأن “جايسي” قد خدعه وقيّده في منزله منذ حوالي العام واغتصبه بقسوة، انكر”جايسي” التهمة واخبر الادعاء بقصة مضطربة مقامها أن “ميللر” أقام معه علاقة جنسية بكامل رضاه طمعًا في ماله، كما أصرّ “جايسي” بأنها مؤامرة مدبرة من أعضاء المنظمة الخيرية الراغبين في مقعد رئاستها لمنعه من النجاح في انتخاباتها، ولم يكن هذا هو الاتهام الوحيد الذي وحه لـ”جايسي”، فبعد أربعة أشهر وقف مرة أخرى أمام المحكمة متهمًا بتدبير عملية اعتداء على “ميللر” باستخدام فتى يُدعى “دوايت آندرسون”، حيث أعطاه “جايسي” عشرة دولارات مُقدمًا مع وعد بدفع ثلاثمائة دولار أخرى إن ضرب “مارك ميللر”، حيث استدرج “آندرسون” “ميللر” إلى سيارته ورشَّ في عينيه سائلا حارقا وبدأ في ضربه، لكن “ميللر” نجح في الفرار لمكان آمن ليبلغ الشرطة عن الواقعة، ويقبض على “آندرسون” الذي شهد بأن “جايسي” هو من أجَّره لضرب “ميللر” انتقامًا منه،
وقف “جايسي” بناءً على أمر القاضي أمام لجنة قياس نفسيّ لتحديد استعداده للمثول أمام الادعاء في المحاكمة من عدمه، لتقرر اللجنة أهليته عقليًا لذلك، وجاء في التقرير أن شخصيته غير اجتماعية، وأن حالته تلك غير قابلة للشفاء بأي دواء معروف، علي الفور صدر الحُكم عليه بعد استلام القاضي للتقرير بعشر سنوات في سجن ولاية “أيوا” التأهيليّ للرجال، وهي أقصى عقوبة لهذا النوع من الجرائم في قانون الولاية، ودخل “جايسي” السجن لأول مرة وهو في السادسة والعشرين من العمر، وقدَّمت زوجته طلبًا للطلاق منه بعد دخوله مباشرةً بحجة خيانته لمواثيق الزواج، ليقبل طلبها بعد فترة قصيرة.
حياة المهرج في السجن
أثناء وجوده بالسجن، كان “جايسي” سجينًا مثاليًا، وقد تجنَّب المشاكل ولفت الأنظار طمعًا في خروج مُبكِّر لحُسن السير والسلوك، لتتحقق أمنيته بالفعل ويخرج من السجن بعد ثمانية عشر شهرًا بعد قبول طلب الإفراج المشروط عنه، ليخرج “جايسي” في الثامن عشر من يونيو عام ١٩٧٠ من بوابة السجن مُتجهًا إلى مسقط رأسه في “شيكاجو”.بدأ “جون جايسي” في استعادة نمط حياته مرة أخرى بعد انتقاله إلى “شيكاجو” في منزل والدته، لم يسمح للماضي بإفساد مستقبله.
لكن ما اصابه بالكدر وقتها هو وفاة والده أثناء مدة تواجده بالسجن، أثَّر ذلك كثيرًا على نفسية “جايسي” وأصيب باكتئاب حاد لمدة طويلة ملقي اللوم علي نفسه على عدم إمكانية توديع والده قبل موته ، وبعد أربعة أشهر من إقامته مع امه، قرَّر “جايسي” أن الوقت قد حان ليعيش وحده، اندهشت والدته كثيرًا من سرعة اندماجه مع العالم بعد خروجه من السجن لكنها فرحت لذلك كثيرًا، لتساعده على شراء منزل خارج حدود الولاية، المنزل رقم 8213 بحارة “وست سمردايل” في ضيعة “نوروود بارك”، ملك “جايسي” نصف المنزل وبقي النصف الآخر ملكًا لوالدته وشقيقتيه.
في الأول من يونيو عام ١٩٧٢ تزوَّج “جايسي” من “كارول هوف”؛ مُطلَّقة حديثًا ولديها طفلتان من زواجها الأول، حيث استغلّ ضعفها النفسي بعد طلاقها ليتقرَّب منها، لتستقر “كارول” مع طفلتيها سريعًا في بيت “جايسي”، وتقيم الأسرة الجديدة علاقة وثيقة بالجيران آل “جريكسا”، حيث كانوا يدعون باستمرار لحفلات “جايسي” للشواء، وعلى الرغم من امتنان “إدوارد جريكسا” وزوجته “ليلي” لصداقة ودعوات الزوجين الشابين، لكنهما تضايقا كثيرًا من رائحة نتن قوية تنبعث من أسفل أرضية منزل “جايسي” باستمرار، وكانت “ليلي” تصرّ على وجود فأر ميت بين ألواح الأرضية وتدعو “جايسي” باستمرار لإزالة جثته، لكن “جايسي” كان يفسِّر الرائحة دومًا بأنها ناتجة عن رطوبة بالأرضية لعيب في نظام الصرف بالأسفل، لكن “جايسي” كان يعلم السبب الحقيقيّ، ليخفي الحقيقة المُروِّعة عن الجميع لأعوام طوال.
وعلى الرغم من شكوى العديد من الأصدقاء وأفراد عائلة “جايسي” من تلك الرائحة، لكنهم لم ينقطعوا عن حضور حفلاته باستمرار، التي زادت ضخامتها واشتهر منزل “جايسي” بها، حتى إن إحدى حفلاته على طراز “هاواي” قد حضرها أكثر من ثلاثمائة شخص، ليصبح “جايسي” شهيرًا في البلدة، ويأخذ الجميع في تناقل أخبار حفلاته الضخمة المُعدّة بعناية، وفرح “جايسي” لذلك كثيرًا، حيث كان يعشق جذب الانتباة، في الواقع كان يستمتع كثيرًا بكونه شخصًا ذا أهمية، قرَّر “جايسي” أن الوقت قد حان للانفراد بعمل خاص يملكه وحده، ليؤسس شركة للديكورات والدهان والصيانة، وعيَّن طاقم مستخدميه كله من المراهقين بحجة تقليل التكاليف.
لكن هذا لم يكن السبب الرئيسيّ بالطبع، لأن “جايسي” قد بدأ بالفعل في إغواء عُمّاله الصغار للقيام بأفعال مُخزية، وأصبح سلوكه الشاذ واضحًا للعيان وبالأخصّ زوجته، انفصل “جون” عن “كارول” عام ١٩٧٥، فقد أصبحت حياتهما الزوجية بلا معنى تقريبًا، لكن ما صعقها هو اعترافه بشذوذه الجنسي ! لتطلب “كارول” الطلاق رسميًا، وتحصل عليه في الثاني من مارس عام ١٩٧٦،
أدرك “جايسي” أنه لا سبيل لتحويل طموحاته إلى واقع سوى الاقتراب من الناس، لذا بدأ في نشاطات عديدة للمجتمع، رزق “جايسي” بمهارة فريدة في الإقناع، لينجح سريعًا في كسب ود الناس، وينتبه إلى مهاراته تلك عضو المجلس المحليّ للبلدة “روبرت ماتويك”، ليقوم “جايسي” بعدها تحت لواء شركته بتنظيف مقر الحزب الديمقراطي بالبلدة دون أجر بانتظام، وينبهر “ماتويك” عندما يشاهد “جايسي” في ثوب “بوجو المُهرِّج” في المستشفيات أو الحفلات لتسلية الأطفال متطوعًا جاهلاً بتاريخ “جايسي” الإجراميّ، اقترب “ماتويك” منه ورشحه لتولي مقاولة الإنارة بالبلدة، حتى أصبح “جايسي” أمينا لخزانة المجلس عام ١٩٧٥، وتبدو أحلامه الوردية في طريقها للتحقيق، لكن مستقبله السياسي لم يكن ليدوم.
سرعان ما بدأت الأقاويل تحوم حول “جايسي” مرة أخرى، ليتناقل سُكّان البلدة سلوكه الغريب وميوله الجنسية الشاذة تجاه المراهقين من الذكور، ولا دخان بغير نار، فقد بنيت تلك الأقاويل على واقعة حقيقية، حول تصرُّفه مع “توني آنتونيتشي” ذي الستة عشر عامًا والذي يعمل تحت إمرته بشركة المقاولات، حيث حاول “جايسي” حسب كلام الصبيّ التحرُّش به، ولم يتوقف إلاّ عندما هدده “آنتونيتشي” بضربه بالكرسي الذي كان يمسك به، ولم يقترب منه “جايسي” بعد تلك الواقعة لمدة شهر،
حالات اختفاء ضحايا جايسي
١-جوني باتكوفيتش
على شاكلة أغلب الشباب في هذا السن – السابعة عشرة – كانَّ “جوني باتكوفيتش” اهتمامًا خاصًا بالسيارات، وافتخر كثيرًا بسيارته ال”دودج” موديل ١٩٦٨، كان يقضي وقتًا كثيرًا في العناية بها وصيانتها بنفسه، وكان يعشق دخول السباقات بها نتيجة هوايته المُكلّفة تلك، اضطر “جوني” للالتحاق بوظيفة، ليتوظَّف لدى شركة المقاولات المملوكة ل”جون واين جايسي” طامحًا في الأجر المُحترم الذي سيغطي مصاريف سيارته، وكان تعامُل “جايسي” معه جيدًا، لتنشأ صداقة بينهما ساعدت على تخفيف عبء ساعات العمل المُرهقة، لكن تلك العلاقة انتهت فجأة حينما رفض “جايسي” نقد “جوني” أجره المُستحق عن الأسبوعين اللذين عمل فيهما، الشيء الذي كان يفعله كثيرًا مع عُمّاله ليكنز النقود لنفسه ليصل غضب “جوني” إلى الذروة، ويأتي مع صديقين له إلى منزل “جايسي” مُطالبًا إياه بمستحقاته، ليرفض الأخير إعطاءها له وتدب بينهما مُشاحنة هدَّده فيها “جوني” بتبليغ السلطات عن تهرُّبه من الضرائب، ليثور “جايسي” في وجهه بعنف أكثر و يدرك “جوني” في النهاية أن لا فائدة، ليترك المنزل مع صديقيه عائدًا، ليوصل صديقيه إلى منزليهما ويقود سيارته إلى بيته، وكانت تلك آخر مرة يُرى فيها “جوني” على قيد الحياة،
٢- مايكل بوني
و لم يكن “مايكل بونين” بهذا الاختلاف عن “جوني”، فقد أحبَّ أيضًا العمل اليدويّ، حيث كان يعشق أعمال النجارة ويبرع فيها ، في يونيو من العام ١٩٧٦ كان “مايكل” يعمل على إصلاح “فونوجراف” قديم، لكن القدر لم يمهله لإكمال عمله؛ حيث اختفى نهائيًا في الطريق إلى محطة القطار، حيث كان سيسافر لمقابلة شقيق زوج أمه وكان “بيللي كارول” من النوع الذي يقع في المتاعب دومًا، لم يذكر أبواه يومًا هادئًا لم يشتكيا منه فيه؛ حيث دخل إصلاحية الأحداث في التاسعة لسرقته حقيبة يد، وقبض عليه في الحادية عشرة لحوزته مسدسا، كان شابًا عابثًا لاهيًا، يقضي مُعظم يومه في شوارع “شيكاجو”و في سن السادسة عشرة، كان “بيللي” يقوم بدور قوّاد بالوساطة بين المراهقين الشواذ جنسيًا والكبار من راغبي اللواط مُقابل نسبة ماليّة، وفي الثالث عشر من يونيو عام ١٩٧٦ خرج “بيللي” من بيته بلا رجعة.
٣-جريجوري جودزيك
أحبَّ “جريجوري جودزيك” وظيفته في شركة المقاولات كثيرًا، ولم يكترث لغرابة المهام التي كُلِّف بها كأعمال التنظيف، حيث أهَّله مُرتّبه لشراء قطع غيار لسيارته ال”بونتياك” موديل ١٩٦٦، كان فخورًا بسيارته على الرغم من حالتها الرثة، لكنه كان مقتنعًا بأنها تؤدي الغرض وزيادة بعدما قاد “جريجوري” ذو السبعة عشر ربيعًا سيارته الحبيبة إلى منزل صديقته التي وقع في حبها منذ زمن لا بأس به، أدار المُحرِّك ليتجه إلى منزله في الثاني عشر من ديسمبر عام ١٩٧٦، ليختفي كالسابقين دون أثر سوى سيارته ال “بونتياك” التي لم تجد الشرطة غيرها من آثاره،
٤-جون سيزيك
وفي يوم عشرين من شهر يناير عام ١٩٧٧، اختفى “جون سيزيك” بنفس الطريقة الغامضة مع سيارته ال”بلايموث” موديل ١٩٧١، ولم يره أحدًا حيًا منذ يومها، لتقبض الشرطة بعدها بأيام على مراهق في سيارة “بلايموث” من نفس الموديل لمحاولته الهرب من محطة البنزين دون دفع ثمن الوقود؛ ليصرخ الشاب قائلاً بأن الرجل الذي يشاركه السكن سيفسِّر الأمر، “جايسي” كان هذا الرجل ليفسِّر “جايسي” الأمر بأن “سيزيك” قد باع له سيارته ال بلايموث” منذ فترة قصيرة، ولم يدقق رجال الشرطة وقتها في وثيقة البيع الموقعة بعد ثمانية عشر يومًا من اختفاء “سيزيك”، ولا في توقيع “سيزيك” الذي لم يكن حتمًا توقيعه، ويشير هنا “لينديكر” في كتابه “The Man Who Killed Boys” إلى حقيقة أن “سيزيك” لم يكن يعرف “جريجوري جودزيك” و”جوني باتكوفيتش” فحسب، بل إنه:
“كان على علاقة ب “جايسي” على الرغم من أنه لم يعمل لديه قَط”.
٥- روبرت جيلروي
كما حدث نفس الشيء تقريبًا ل”روبرت جيلروي” الذي كان عاشقًا للهواء الطلق والمساحات الشاسعة، كان يكثر من التخييم ويعشق ركوب الأحصنة، كان من المفترض أن يلحق “روبرت” بأصدقائه في الحافلة ليتجهوا سويًا لركوب الخيل على الشاطئ، لكنه لم يظهر مُطلقًا، ليبدأ والده ضابط البوليس في حملة للبحث عنه فور علمه باختفائه، وعلى الرغم من اتساع نطاق البحث الذي بدأه والده مع زملائه، لكنهم عجزوا عن إيجاده وكان سن الخامسة عشرة هو الذي قّدِّر فيه اختفاء “روبرت باييست” من أمام الصيدلية التي كان يعمل بها بعد إنهائه ورديته بدقائق معدودة، وكانت والدته تنتظره بسيارتها لتعود به إلى البيت، حيث قال لها إنه سينهي مقابلته مع صاحب شركة مقاولات وعده بعمل لديه ثم يرجع أمام الصيدلية، لكنه لم يعُد مُطلقًا،
انقلب قلق الأم ذعرًا شاملاً مع مرور الوقت، لتسأل عنه في الصيدلية وخارجها بلا فائدة، لم يره أحد، لتبلغ الشرطة بعد ثلاث ساعات من اختفائه المُريب، ويقود المُلازم “جوزيف كونتزاك” التحقيق في تلك الواقعة، وسُرعان ما اتجه “كونتزاك” إلى بيت “جايسي” بعد أن قادته الأدلة لأنه المقاول الذي عرض الوظيفة على “روبرت جيلروي”، ليسأله “كونتزاك” بعض الأسئلة ويطالبه بالتوجه إلى القسم للإدلاء بأقواله رسميًا، لكن “جايسي” يتعلل بحالة وفاة عائلية تُلزمه بالبقاء في منزله لتلقي العزاء تليفونيًا، ليذهب “جايسي” بعد ساعات إلى المخفر ويشهد بعدم معرفته بأيّ تفاصيل تفيد التحقيق في اختفاء الشاب الصغير، ليعود “جايسي” إلى منزله بعد انتهاء الإدلاء بأقواله،
لكنَّ المُلازم “كونتزاك” لم يكتفِ بذلك، ليدفعه هاجس غامض إلى البحث في سجل “جايسي” في اليوم التالي، ليندهش عندما وجد صحيفة سوابق الأخير تحمل إدانة باعتداء جنسيّ على صبيّ مُراهق؛ ليدفعه ذلك لاستخراج إذن تفتيش لبيت “جايسي”، المكان الذي اعتقد “كونتزاك” بشدة أنه سيجد فيه “روبرت باييست”.
في الثالث عشر من ديسمبر عام ١٩٧٨، اقتحمت الشرطة منزل “جون واين جايسي” ب (سمردايل آفينيو)، ولم يكن “جايسي” مُتواجدًا ساعتها و كانت الأشياء التي صادرها المُحقِّق “كاوتز” المسئول عن الجرد من منزل “جايسي” كالآتي:
- صندوق مجوهرات به رخصتا قيادة والعديد من الخواتم منها واحد منقوش عليه اسم خريجي مدرسة (ماين ويست) الثانوية لعام ١٩٧٥ والحروف الأولى: ج. أ.س.
- صندوق وُجِد داخله مُخدِّر (الماريجوانا) وبعض أوراق التبغ.
- سبعة أفلام إباحية مصنوعة في (السويد).
- بعض أقراص المُهدِّئات.
- مطواة.
- زوج من الأغلال الحديدية ومفتاحها.
- قطعةً مُمَّزقة مُبقَّعة من سجادة.
- صور مُلوَّنة لصيدليات.
- مُفكِّرة.
- ميزان.
- كتب عِدّة تتراوح مواضيعها بين الشذوذ الجنسيّ والعلاقات بين المراهقين والكِبار.
- لوح خشبيّ طوله حوالي المتر مثقوب من طرفيه.
- إيصال استلام لفيلم كاميرا.
- مسدس إيطاليّ وطلقات له.
- بطاقات تعريف خاصة بالشُرطة.
- إبرة للحقن تحت الجلد وزجاجة بُنيّة صغيرة.
- بعض الملابس بمقاسات مُختلفة أغلبها أصغر من مقاس “جايسي”.
- حبل من النايلون.
وتم مُصادرة ثلاث من سيارات “جايسي” أيضًا، واحدة منها وُجِدت في حقيبتها خُصل من شعر اكتشف المعمل فيما بعد أنها تنتمي ل “روب بايست”،
كما نزل المُحققون للبدروم تحت منزل “جايسي”، ليُصدموا بالرائحة النتنة هناك، مما جعلهم يفترضون أنها جزئية للصرف الصحيّ، كما وجدوا المكان مرشوشًا بالجير، لكنهم لم يجدوا فيه ما يريب أثناء بحثهم الأوليّ، ليعود رجال الشرطة لمقرّهم لإجراء فحص العينات المأخوذة من المنزل والبحث في القضية بتمعُّن أكثر، تم استدعاء “جايسي” في قسم الشُرطة لسؤاله عن الأشياء التي وجدوها في بيته، والذي ما لبث أن رآها ليغضب ويستدعي مُحاميه الذي أوعز إليه بعدم الإمضاء على ورقة حقوقه التي يكفلها له القانون، وفي النهاية لم تجد الشرطة أدلة كافية لاعتقال “جايسي”، ليكتفوا بسؤاله عن واقعة اختفاء الصبيّ “بايست” مرة أخرى، ثم أطلقوا سراحه، لكنهم في ذات الوقت لم ييأسوا من البحث، حيث وُضِعَ “جايسي” تحت المراقبة لمدة أربع وعشرين ساعة يوميًا،
في الأيّام التالية لتفتيش المنزل، استدعت الشُرطة أصدقاء “جايسي” لاستجوابهم، وكان الأخير قد أخبرهُم مُسبقًا بأن الشرطة تحاول إلصاق تهمة القتل به، وادّعى أمام أصدقائه أنه لا علاقة له بالأمر كله، ووصلت نتائج تلك التحقيقات لمعرفة علاقة “جايسي” ب “روبرت بايست”، وإن لم يُصدِّق أصدقاء الأول بإمكانية ارتكابه لجريمة شنيعة كهذه، ليقرِّر رجال الشرطة من فرط يأسهم إلقاء القبض على “جايسي” بتُهمة أصغر هي حيازة المُخدرات، ولم يعرفوا أنه في هذا الوقت قد اعترف لصديق وزميل له بالعمل أنه قتل “بايست” بالفعل، ولم يكتفِ بهذا فقط ؛ بل اعترف له بأنه قتل أكثر من ثلاثين شخصًا لأنهم كانوا يحاولون ابتزازه!
بعد طول بحث وتحليل في الأشياء التي صادرتها الشُرطة من منزل “جايسي”، وجد الخبراء -أخيرًا- دليلا يُدينه؛ أحد الخواتم التي وجدوها بالمنزل والتي تنتمي لمُراهق من المفقودين يُدعى “جون سيزيك”، ليقودهم هذا لاكتشاف اختفاء ثلاثة آخرين من موظّفي “جايسي” بشكل غامض، وأيضًا وجد المحققون علاقة أخرى في إيصال استلام الفيلم، حيث اكتشفت التحقيقات أن الإيصال ملك لأحد زملاء “بايست” وأن الأوّل قد أعطاه للثاني ليلة اختفائه، وبانكشاف تلك الأدلّة، بدأ المحققون بالانتباه إلى ضخامة القضية التي تنجلي أمامهم،
ولم يطل الوقت حتى عاد الخبراء لتفتيش منزل “جايسي” ثانيةً، وفي تلك الآونة اعترف “جايسي” بقتل “شخصٍ ما” لكنه أدّعى أن الأمر كان دفاعًا عن النفس، وأنه دفن الجثة أسفل جراج بيته، ثم حدِّد لهم مكان الدفن، لكن الشرطة لم تبدأ بالحفر وقتها، لأنهم كانوا ينتظرون نتائج البحث المُفصَّل بالبدروم ذي الرائحة الكريهة، ولم يَطُل البحث حتى وجدوا بروزا غير طبيعي بأرضية البدروم، ليحفروا ويجدوا بقايا الجثة الأولى،
وفي تلك الليلة، تم استدعاء الباحث الطبيّ د.”روبرت شتاين” للمُساعدة في التحقيق، والذي فور وصوله اشتَمَّ رائحة مألوفة لديه، رائحة الموت! ليبدأ “شتاين” بتنظيم البحث عن طريق تقسيم المناطق كباحثي الآثار، حيث كان يعلم بطبيعة تخصصه أن التنقيب عن الجثث يحتاج حرصًا زائدًا للحفاظ على سلامتها، وأيضًا لعدم إضاعة الأدلة في مسرح الجريمة، ليستمرّ التنقيب والبحث تحت منزل السفّاح تحت إشراف د. “شتاين”.
اعترف “جايسي” بجرائمه في يوم الجمعة ٢٢ ديسمبر ١٩٧٨ بالتفصيل؛ وأنه قتل أكثر من ثلاثين شخصًا ودفن جثثهم تحت بدروم منزله، وجاء بعد ذلك في كتاب Killer Clown The John Wayne Gacy Murders بقلم كُلا من “تيري سوليفان” و”بيتر مايكن” أن “جايسي” قد ارتكب جريمته الأولى في يناير عام ١٩٧٢، والثانية في يناير عام ١٩٧٤ بعد حوالي عام والنصف من زواجه، واعترف “جايسي” أيضًا بأنه كان يغوي ضحاياه لتقييدهم بالأغلال ثم يبدأ باغتصابهم بعدها، وأنه كان يكتم أصوات المُراهقين بوضع خرقة من الملابس الداخلية في أفواههم، ثم يقتلهم في النهاية عن طريق الخنق أو بدفع لوح من الخشب في حناجرهم،
واعترف أيضًا بأنه كان يُبقي الجثث أحيانًا تحت سريره لساعات قبل دفنهم في بدروم المنزل، وفي أول يوم للحفر وجدت الشرطة جثتين فحسب، إحداهما ل”جون باتكوفيتش” أسفل الجراج والأخرى في البدروم، وبمرور الأيّام بدأ عدد الجثث في الزيادة باطراد، بعضهم لا تزال ملابسهم الداخلية مدسوسة داخل حناجرهم، والبعض الآخر مدفون جوار بعضه ليشك المحققون أنهم قتلوا في نفس الوقت تقريبًا، وأكَّد ذلك شهادة “جايسي” بأنه كان أحيانًا يقتل أكثر من شخص في المرة الواحدة، لكن السبب الحقيقيّ الذي عُرِف بعدها لدفن بعض الجثث متجاورة هو توفير المساحة فقط لا غير!
وفي الثامن والعشرين من ديسمبر، وصل عدد الجثث التي أخرجها رجال الشرطة من أسفل منزل “جايسي” إلى سبع وعشرين جثة، ولم يكُن هؤلاء كل الضحايا، لكن الباقين وُجِدوا بأماكن أخرى غير البدروم بعدها بأسابيع قليلة، حيث وجدت جثة “فرانك واين لاندينجن” في نهر (دي بلاينز) بولاية (إلينوي) قبلها، ولم تكن الشرطة على دراية بفظائع “جايسي” بعد، لكن الربط قد تم بعد العثور على رخصة قيادة “واين” بمنزل السفّاح ويُضاف الأخير لقائمة ضحايا “جايسي”، ولم يكن “واين” هو الوحيد الذي عُثِرت على جثته في النهر، حيث وُجِدَ “فرانك مازارا” الشهير ب “موجو” ميتًا بنفس المكان بذات الحالة التي يترك بها “جايسي” ضحاياه، ليصبح تعداد “موجو” هو التاسع والعشرين، لكنه ليس الأخير،
وقد أخبر “جايسي” المُحققين فيما بعد بسبب رميه للضحايا في النهر، مُتعللاً بضيق المساحة أسفل البدروم، ولأن ظهره كان يؤلمه مِمّا صعَّب عملية حفر القبور عليه!لم تنتهِ الشُرطة من التنقيب بمنزل (جايسي) حتى نهاية فبراير من العام ١٩٧٩، حيث استغرق البحث مُدّة أطول مِمّا يتوقعون، نظرًا لسوء الأحوال الجوية وبطء إجراءات الروتين، وبهذا الوقت بدا وكأنهم أخرجوا كل الجثث، لكنهم آمنوا بأن الأمر لم ينتهِ بعد، وكانوا على حق،
حيث ظهر للنور اكتشاف مُرعِب آخر أثناء تكسير العُمّال للخرسانة بفناء منزل (جايسي)؛ جثة بحالة جيدة ساعد الأسمنت على حِفظها لرجل يرتدي بنطال “جينز” قصير وفي أحد أصابع يده اليُسرى خاتم زواج، وهنا أدرك المحققون أن ضحايا (جايسي) لم تقتصر على المُراهقين والشواذ جنسيًا فحسب، بل شملت أيضًا الرجال المتزوجين! ليؤكَّد هذا الاعتقاد بعدها بأسبوع عند اكتشاف جثة أخرى لرجل آخر، ثم اكتُشِفَت الجثة الحادية والثلاثون في نهر (إلينوي)، ليكتشف المحققون هويتها عن طريق وشم على ذراعها، حيث تعرَّف على الضحية أحد أصدقاء والده برؤية الوشم بإحدى الجرائد التي نشرت خبر انتشال الجثة، ويصبح للجثة المجهولة اسم: (تيموثي أوروك)، ويُرجَّح أن (جايسي) قد قابله بأحد البارات المُخصصة للشواذ في (نيو تاون)،
وفي نفس وقت انتشال (أوروك) وجد رجال الشرطة جثة أخرى تحت غرفة الألعاب بمنزل (جايسي)، لتقلب بعدها الشرطة هذا المنزل حطامًا للبحث عن ضحايا آخرين، لكن على الرغم من هذا لم يجد أحدًا جثة (بايست) هناك حتى شهر إبريل ١٩٧٩، حيث وُجِدَت بقاياه بقاع نهر (إلينوي)، حيث كانت عالقة بشئ ما في القاع مِمّا صعَّب العثور عليها، وأكَّد تقرير الطبيب الشرعيّ بعدها أن سبب وفاته هو الاختناق بمناديل ورقية تم حشرها في حنجرته، وبعدها رفعت عائلة (بايست) قضية بخمسة وثمانين مليون دولار ضد (جايسي) تعويضًا عن قتله البشع لابنهم، واستمرَّت تحقيقات الشرطة في البحث عن سجلاّت الضحايا ومقارنتها للتعرُّف على شخصيات الجثث التي وجدوها بمنزل (جايسي)، ليتعرّفوا على جميعهم ما عدا تسع ضحايا،
ومع انتهاء البحث عن جثث ضحايا (جايسي)، بدأت المُحاكمة،
بدأت المُحاكمة يوم الثلاثاء المُوافِق للسادس من فبراير عام ١٩٨٠ بمُجمَّع محاكِم (كوك كنتري) في (شيكاجو) بولاية (إلينوي)، تكوَّنت هيئة المُحلّفين من خمس نساء وسبعة رجال، أنصتوا جيدًا ل (بوب إيجان) مُمثِّل وهو يتكلم عن حياة (روبرت بايست) وطريقة موته الشنيعة ومسئولية (جايسي) عن مقتله مع اثنين وثلاثين شابًا آخرين، وأخبرهم (إيجان) بتفاصيل اكتشاف الجثث في منزل (جايسي) وكيف أنه ارتكب جرائمه مُتعمدًا وهو بكامل قواه العقلية،
ويأتي في كتاب (سوليفان) و(مايكن) “Killer Clown: The John Wayne Gacy Murders” بأن كلام (إيجان) قد أبهر المُحلّفين وكل من حضروا المُحاكمة يومها، والذين يسمعون جميعًا تفاصيل جرائم (جايسي) للمرة الأولى، وتبع خطاب (إيجان) كلمة مُحامي (جايسي) المُمَثَّل للدفاع عنه (روبرت موتا)، والذي عارض رأي (إيجان) في مسألة كون (جايسي) قد ارتكب جرائمه وهو بكامل قواه العقلية، لاعبًا بورقة الجنون كمحاولة لتخفيف الحُكم عليه، واصفًا إياه بأنه لم يكُن مُتحكمًا في أفعاله التي تبدو بعيدة تمامًا عن العقل لكل ذي عينين،
في القانون الأمريكيّ، إن تم إثبات الجنون في القاتل بحالة مُشابهة يتم إيداع المُتهم مصحة عقلية بدلاً من السجن أو الإعدام، وفي بعض الحالات يتم إطلاق سراح المُتهمين من المصحة إن ثبت استقرار حالتهم العقلية بعدها وأهليتهم للعودة إلى المُجتمع، وهذا هو الخيار الذي رأى فيه (موتا) الأفضل لموكله، ولم يُفاجأ مُمثلي الادعاء بمحاولة (موتا)، بل كانوا مُستعدين لها وجاهزين بردود الأفعال المُناسبة ضدها،
وعندما حان الوقت لسماع شهادة الشهود، كان أول شاهد هو (ماركو باتكوفيتش) والد ضحية (جايسي) (جون باتكوفيتش)، وتلاه العديد من أقارب وجيران وأصدقاء الضحايا الذي بكى بعضهم على المنصة بحُرقة، وسرد البعض الآخر تفاصيل المرّات الأخيرة التي ودَّعوا فيها أحبائهم وأصدقاؤهم من الضحايا، وبعدها جاء دور شهادة مُستخدمي (جايسي) الذين نجوا من اعتداءاته الجنسيّة وأسلوبه العنيف في التعامُل، ليشهدوا بأن تقلُّباته المزاجية كانت تؤدي أحيانًا لمحاولات خداعهم لتقييدهم بالأغلال الحديدية، وشهد آخرون بأنه تحرَّش بهم أثناء ساعات العمل الرسميّة، لتستمر الشهادات لأسابيع تالية، بين أصدقاء وأقارب (جايسي) وضبّاط شرطة أسهموا في القبض عليه وعُلماء نفس أقرّوا بأنه ارتكب جرائمه في كامل وعيه،
وقبل انتهاء المُحاكمة، وصل عدد الشهود الذي تمَّ استدعاؤهم إلى ستّين شخصًا! فوجئ جميع الموجودين بالقاعة في الرابع والعشرين من شهر فبراير عندما نودي على اسم الشاهد الأوّل الذي اختاره محامو (جايسي): (جيفري رينجول)! والذي كان من المنطقيّ أن يشهد في صفّ الادعاء، وقد ذكر (رينجول) واقعته بالتفصيل مع (جايسي) بعد ذلك في كتاب له ليذكُر فيه أن ممثلي الادعاء آمنوا بأن شهادته سوف تُفسِد القضية، لذلك لم يختاروه،
لكنّ الحقيقة هي أن ممثلي الادعاء قد فضّلوا تأجيل شهادة (رينجول) لما بعد الفحص الطبيّ، في الوقت الذي قابله فيه محامي (جايسي) الآخر (آرميرانتي) ليسأله عمّا إذا كان يعتقد أن (جايسي) قد ارتكب تلك الجرائم عن وعي أم جنون، ليجيبه (رينجول) بأنه لا يؤمن بأن (جايسي) شخص عاقل، ليستغل (آرميرانتي) هذا الكلام ويطلب من (رينجول) تكراره على منصة الشهود أمام القاضي، ولم تستمر شهادة (رينجول) طويلاً، حيث انهار في منتصف سرد وقائع اغتصاب (جايسي) له، ووصل انهياره النفسيّ لدرجة أنه تقيّأ لساعته وانفجر في بُكاء هيستيريّ استلزم إخراجه من قاعة المحكمة بأكملها، وجلس (جايسي) في قفص الاتهام يراقب الحُرّاس يخرجون (رينجول) من القاعة بلا أدنى تعبير على وجهه،
وجاهد (موتا) و(آرميرانتي) بعدها لإثبات جنون (جايسي)، حيث استدعيا أفراد أسرته لتشهد أمه بتفاصيل اعتداء أبيه عليه ووصول الأمر لإلهاب ظهره بسوط جلديّ، وشهدت أخته بأنها رأت أباها يسبُّه بألفاظ قذرة في مُناسبات عديدة، وشهد آخرون بكرم وطيبة أخلاق (جايسي) معهم، وحكوا كيف كان يُساعد المُحتاجين ويرسم الابتسامة على شفاة المرضى في زيّ المُهرِّج، وشهدت (ليللي جريكسا) كيف كان (جايسي) جارًا رائعًا دمث الخلق، لكنها رفضت اعتباره مجنونًا، الشيء الذي يُهدِّد بنسف قضية الدفاع من أساسها! كما وصفته بأنه “رجل عبقريّ”، مِمّا تعارض مع قصة الدفاع بكون (جايسي) رجلاً مجنونًا غير مسئول عن أفعاله، كما استدعى الدفاع (توماس إليزيو)، وهو طبيب نفسيّ حظى بمقابلة (جايسي) قبل مُحاكمته، ووصفه بالذكاء الشديد، لكنه على حد قول (إليزيو) مُصاب بانفصام غير مُستقِر في شخصيته، واتفق بعده الكثير من المُختصين على إصابة (جايسي) بالانفصام، وبأنه شخصية مُعادية للمُجتمعات، وأن أعراض أمراضه تلك تجعله غير قادر على إدراك تصرفاته وأفعاله الإجراميّة، مِمّا يلغي مسئوليته عنها، لتنتهي مرافعة الدفاع بعد الأخذ بآراء الأطباء المُختصّين،
وبعد انتهاء المُجادلات بين الادعاء والدفاع، انصرف أعضاء هيئة المُحلّفين للاجتماع في غرفة مُغلقة لاتخاذ القرار الذي سيُحدِّد مصير (جايسي)، لتنتهي مُهمة كل الأطراف بانتظار النُطق بالحُكم، الذي لم يُمَهَّد له إلاّ بعد استدعاء أكثر من مائة شاهد على المنصة بحوالي خمسة أسابيع، استمرَّت المداولات بين أفراد هيئة المُحلفين ساعتين فقط لا غير حتى خرجوا للنُطق بالحُكم النهائيّ، ليسود الصمت القاعة بأكملها وتنحبس الأنفاس انتظارًا، ووقف جميع الحاضرين في توتُّر على أطراف أصابعهم لسماع قرار المُحلِّفين،
حتى انكسر الصمت داخل القاعة بصوت حاجب المحكمة وهو يقرأ الكلمات التالية:
“قررنا نحنُ هيئة المُحلّفين، أن المُتَّهم (جون واين جايسي)… مُذنِب”.
كانت ليلة (جايسي) الأخيرة هي ليلة العاشر من مايو عام ١٩٩٤، حيث تناول وجبة الوداع والناس يحتشدون حول سجن (ستيت فيل) في (كريست هيل) بولاية (إلينوي) في هيستيريا انتظارًا لتنفيذ حُكم الإعدام، وطبقًا للتقارير، لم يُبدِ (جايسي) أي ندم على أفعاله قبل إعدامه، حيث كانت آخر كلمة يتبادلها مع مُحاميه هي:”إعدامي لن يُعيد كل هؤلاء للحياة”.
وكانت آخر كلماته في هذه الدنيا سبّة قذرة أطلقها بوجه أحد الحُرّاس وهو يُقاد إلى غرفة الإعدام، لتبدأ عملية الإعدام بالحَقن بالسم، ولكن تتجمَّد المادة الكيميائية في الأنبوب الموصل بذراع (جايسي) لتمنع السم من السريان في عروقه، ليتدارك المسئولون الخطأ ويبدلوا المادة والأنبوب، لتأخذ العملية ثماني عشرة دقيقة رُفِع بعدها الستار وأعلِن رسميًا عن وفاة (جون واين جايسي)، لتنطلق صيحات الفرح من الجماهير المُحتشِدة خارج السجن، مُعلِنة انتقال سفّاح روَّع الولايات المُتحدة بأسرها لأعوام طوال من عالمنا إلى عالم آخر نعلم جيدًا أنه سيلقى فيه عقابه العادل،