in

مراجعة رواية كفر الجيوشي

” لكل شئ سر، و لكل سر مفتاح ومعرفة المفتاح – السر ! قد تصل بك الى قمة السعادة و قد تهوى بك الى قاع الجحيم، هذا لو عرفت المفتاح، فما بالك بالسر، ذاته ؟ ” ليس سرا واحدا، و لكنها اسرار، حاولت، لنرى، ربما عرفت سرا ما !

طيف، احدهم تستعر به النيران و تلتف حوله الأفاعى و لا يُجاب ظمأه الا بالحميم، طيفه الان هو من يحدثنا، اعتقد طيفه الملائكى اراد ان يحكى لنا حكايته علّنا نتعظ، ترى أنتعظ ؟! لنرى اذاً طيف من هذا و ماذا اقترفت يداه لتلتف حوله الأفاعى و هو راقد تحت التراب !

أسرة بسيطة و لكنها أصيلة تسكن احدى القرى التى ” تشقها من شمالها الى جنوبها ترعة مياة عذبة بنت فرع النيل ؛ رغم انها تسير عكس اتجاهه !”، هو كفر، يسمونه كفر الجيوشى، دعنا من الأسماء الان فلها حكاية اخرى، ! هى أسرة ربها رجل تقى طيب يعمل بالفلاحة و يحفظ كتاب الله رُزق هو و زوجته بصبيان ؛ حسان و محمود و بفتاة ؛ مريم، الفاعوس !

ربى عمر أولاده على تقوى الله و شجعهم على تحصيل العلم و بالفعل أبدوا تميزا فى الدراسة، فها هو حسان يحصل على المركز الرابع فى سنوات المرحلة الابتدائية و ها هو محمود المتفوق دائماً و الحاصل على المركز الاول فى الإعدادية و مريم الشغوفة بالعلم تجاهد حتى تكمل الإعدادية بينما من هم فى سنها جلسوا فى البيت ينتظرن العدل ! منذ الوهلة الاولى ستلاحظ الترابط بين عمر و اخاه حمدان ، حمدان المهيب المعطاء دائماً ، و بينما كان اولاد عمر يرتقون فى سلم التعليم كان اولاد حمدان يعملون معه فى الفلاحة.

تمر الاحداث بهدوء و تستمر النجاحات الى ان يدخل بطل قصتنا و صاحب الطيف الراوى الى المرحلة الثانوية، هنا تحديدا تبدأ الحكاية، سن الطيش و شلة السوء و محاولة تجريب كل شئ لتزل قدم حسان – هذا الذى كان طفلا بريئا يداوم على الصلاة فى المسجد – فى وحل الآثام اللامنتهي، تتخلل رحلة الهبوط احيانا لحظات توقف او صعود طفيف جدا لا يكاد يُلحظ حتى يهبط من جديد، تتزوج مريم و تكمل تعليمها و يدخل الشباب الجامعة و كل متعلق بفتاته، اما حسان فيحب سارة الجيوشى و محمود يحب ابنة خاله احلام.. و كانت بالفعل احلام !

و بالنسبة للجامعة فهى مجتمع موازى تتمثل فيه كل طبقات المجتمع و طوائفه السياسية فمناخ الجامعة يصور لنا احوال مصر السياسية فى فترة التسعينيات و ما بعد ثورة ١٩٥٢ حيث تتعدد التيارات بين المؤيد لعبد الناصر و المعارض له و التيارات الاسلامية و يرد النظام بالبطش الذى مارسه ضد معارضيه و ضد التيارات الاسلامية و بعدها ننتقل مع حسان لمحيط العمل و ما به من فساد و رشاوى و تقاعس و ظلم، يتخرج محمود من كلية الهندسة بتفوق و يسافر لاستكمال مسيرته العلمية فى المانيا بينما حسان يحاول خطبة سارة الجيوشى بعدما تخرج و حصل على وظيفته، ترى ماذا يجعل عائلة الجيوشى العريقة هذة تزوج بنتها من حد من هؤلاء الرعاع ؟ هنا منبع الأسرار، هنا خرجت غدة الخير من حسان بغير رجعة، هنا تستعر فى جوفه غدة الشر و يشتهى الدم، هنا يولد اولاد سبعة، هنا !! يا لهول ما هو هنا !!

اما عن كفر الجيوشى فأشهر عائلاته عائلة الجيوشى الحاكمة و عائلة الاهوانية المتعلمة التى يشغل أفرادها جّل الوظائف المهمة من أطباء و معلمين و نظار و خطيب الجامع الكبير و بهذا فيشكل الجيوشية الجهة الحاكمة فى الكفر بينما يشكل الاهوانية التيار الدينى و مصدر خير و عطاء كبير للبسطاء و بينما لا يوحد غير الجامع الكبير يصلى فيه كل الناس – “و كان المسجد وقتها يمتلى بالمصلين تكاد القرية كلها تجتمع فيه !”-اذ يظهر احدهم ؛كث اللحية قصير الثياب فيشتم هذا الامام و ينعته بالنفاق و يُنشأ مسجدا اخر للسير على سنة النبى و الابتعاد عن هؤلاء المبتدعين ! و ” هكذا رويدا رويدا يزداد عدد المساجد بينما يقل عدد المصلين “

و كما يتشرذم مجتمع المسلمين- بسبب تجار الدين و شيوخ السلطة – يتشرذم كذلك المجتمع الذى يضمهم بالمسيحيين فبعد ان كانوا كالإخوة فرحهم واحد و حزنهم واحد اصبح بعضهم يتربص للآخر و يسيئ الظن به بينما يتربص بهم جميعا قوة اعلى بكثير تريدهم دائماً متشرذمين متفرقين الا فى حالة واحدة، مولد سيدى الجيوشى ! نعم هنا فقط تجمعهم و تساوى بينهم فهى تريدهم جميعا جهلة، مرضى، و تافهون.

على عكس مدرستنا السابقة ؛ كانت المدرسة الجديدة محاطة بسور عالى و بوابة حديدية ضخمة ،لكن كثيرا من الطلاب كانوا يتسلقون سورها العالى ليقفزوا من فوق السور !”، ” أكانت تلك هى الحرية ؟! ” نعم اكانت الحرية هى ما جعلتهم يلتزمون فى الاولى المحاطة بالأشجار بينما يهربون من الثانية المحاطة بسور عالى ؟ اقصد اكانت الحرية المسلوبة فى الثانية هى ما جعلتهم يتمردون على الصواب ؟

فى احدى المرات و بينما كانوا أطفال يلعبون ” صلح ” ضرب ابراهيم الجيوشى ابن عم حسان على قفاه و اوقعه فى الوحل و غضب حسان لذلك و لكن الغريب ان الولد بدأ يبكى و يجرى ورى اخاه و يقول له انت من فعل ذلك بى،

و تمر الايام و ينصب حسان فخا لابن عمه ! و يوقع صابر – ابن عم حسان – محمود يوما ما بينما يتسابق مع أخيه و بالتأكيد يغضب حسان لذلك، و اخيرا يأتى اليوم الذى يقتل فيه حسان اخاه، محمود !! الا يتشابه كل هذا مع واقعنا كثيراً ؟!

” كانت الترعة تجرى عكس اتجاه جريان النيل ، اما الان فلم تعد تجرى ! بل لم تعد هناك ترعة ؛ تحولت الى مساحات من الطين العفن تتخللها حفر صغيرة من الماء القذر و تمتلئ بالقمامة و الحيوانات النافقة !”

الشخصيات

رسمها الكاتب حسام الشحات بدقة منذ البداية فها هو حسان يتحدث عن اسرته واحدا واحد و عن أقرباءه و أصدقاءة و معلميه و كل من صادفهم و لعل من اكثر الشخصيات حضورا – من وجهك نظرى – كانت مريم و سارة.

رمزيات الرواية

لا يسعك الا ان تفغر فاك و انت تمر بين السطور و الصفحات فلا ترى احدها يخلو من الرموز و الإشارات، ما كل هذا ؟!!.. يالها من عبقرية!، فلنحاول اذاً..
كفر الجيوشى : مصر بكل فئاتها و ملامحها.
اللون الأزرق : ذكره الكاتب حسام الشحات فى اكثر من موضع فى الرواية و ربما اختلفت رمزيته باختلاف موقعه فها هى سارة ترتدى بنطالا كحلى و بلوزة زرقاء و يرمز ذلك لسيطرتها و نفوذها و ثقتها الشديدة بنفسها، و ربما لبرودها ايضا فكلما اشتد اللون الأزرق كلما دل على القسوة و البرود.
و لكن ننتقل لأبلة اسماء التى ترتدى عباءة زرقاء و خمارا لبنياً و هنا شعرت بالدفئ و الحب و العطاء و القوة و الثقة.
اللون الأزرق فى غرف قصر الجيوشى رأيته يرمز اللون الأزرق بعلم اسرائيل و ما عزز ذلك لدى هو المثلثات المتداخلة التى تزين بها سقف غرفة مكتب داوود و اللون الأزرق بشكل عام احسسته يرمز الى السماء و القدر.

شجرة التين : شجرة التين التى تثمر قبل ما تنبت اوراقها و تنبت اوراقها اولا فقط عندما تعقم فلا تثمر، ترى اهى مصر، مصر التى أتت ثمارا كثيرة ثم عقمت، نعم التينة بساقها الطويل تشبه كثيراً مصر بتريخها الطويل العريق، تُرى أتثمر شجرة التين من جديد ؟.. أثمرت شجرة الجيوشى بعدما عقمت فقط عندما بدأ الجيوشى الكبير المتشبث بالحياة فى الاحتضار، نعم ستثمر شجرتنا ايضا عندما نهتف معا : ” نحن الملك العادل، نحن الملك العادل ” ويبدأ احدهم بالاحتضار ! بغير ذلك، لا اظنها تثمر أبدا !

التينة حازت على نصيب كبير من الحكايات، فأوراق التين هى ما سترت سوءة ابوينا آدم و حواء، سترت السوءة الخارجية الحسية فقط و لكن دواخلنا ما تزال معراة ملأى بالسوءات كشجرة التين العقيم التى تتغطى بالأوراق و هى لم تثمر شيئاً !

ااه، كدت انسى شيئاً، سيدنا عيسى و التينة اليبسة التى لعنها، ماذا يريد كاتبنا حسام الشحات بتلك الآيات !؟ ايليا ابو ماضى و تينته الحمقاء، ترى ما دورها هنا ؟!بحثت فى شرح الآيات و وجدت ان سيدنا عيسى رمز بهذة التينة الى بنى اسرائيل، اليهود، اما التينة الحمقاء التى تتأفف من العطاء و فستحرم بذلك من هذة النعمة و يجتثها صاحبها فحكايتها طويلة، هى كل من يملك و لا يريد ان يعطى، هى الأغنياء و هى اصحاب النفوذ و السلطة، هى عائلة الجيوشى، حسان صاحب هذا الطيف مولع بالبحث فى حقائق الأسماء و اصولها و بينما بحث و سأل عن كل شئ و بينما عرفنا اصل الكثير من الأسماء و نحن نتقدم خلال الرواية بقى اسم الجيوشى حتى النهاية لغزا !، نعم قال له أستاذه يوما انه مثلما كان اصل الكلمة الانجليزية cover َعربى حيث أُشتقت من كلمة كَفَر كان اصل الجيوشى انجليزى و تركنا حيارى بحثت و وجدت ربما اصلها الكلمة الانجليزية gauche بمعنى احمق و نكون بهذا ربما اقتربنا من الحقيقة اذا اعتقدنا ان التينة الحمقاء ترمز للجيوشية الذين فصلوا ظلهم على جسدهم فلم يكن به طول و لا قصر و لا بد يوما الا يطيق صاحب البستان رؤيتهم فيجتثهم فيهووا فى النار و يستعروا و يريحونا.

كفر الشِّر : الشِّر هى صغار البلطى و لكن اين الشِّر الموجود فى كفر الشِّر و هم لا يمتلكون ترعة اصلا ؟، و لماذا تحول الاسم الى كفر الشَر – بفتح الشين – ؟ اعتقد ان هذا الكفر رمز لأوربا و الغرب الذين لم يكونوا بالفعل الا شِّرا بالنسبة إلينا و سرعان ما انقلب الحال و اخذوا مياهنا و خيراتنا ليختفى الشِّر و الترعة و تصعد المبانى و تمهد الطرقات و تدخل الكهرباء كل هذا على أروحنا و نحن نعانى الأمراض و الأوبئة و لا يخفى عليك انها لا تصيب الجسد فحسب بل تصيب الامم فى أخلاقها و هويتها و لغتها فنصدر لهم الاموال و يصدرون لنا المخدرات و كل ما يفسدنا.

الجيوشية : لم اجد مفرا من انهم اليهود، نعم هم شعب الله المختار الذين يحبهم الله و يكرمهم عن باقى الخلق و يساعدهم فى الفساد و الإفساد و جدهم الأكبر من أولياء الله الصالحين – كما يعتقدون – و هم من عملوا فى الاقراض و الاموال – الحقيقة بالمراباة -و ينتمون لأهل الشر لا العكس بينما يعيشون بيننا و يحكمونا، هم ايضا تنقلوا من مكان لمكان و لم يرحب بهم الناس و اخيرا ينسبون الأبناء لأمهاتهم تماما كما يفعل اليهود فاليهودي هو من يُولَد لأم يهودية، الجيوشية يعلمون جيدا ان علمهم و جهل الناس هو ما يجعلهم يسيطرون فبقدر ما يهتمون بتضليل الناس و جهلهم يهتمون كذلك بأن يتعلموا و يعرفوا كل شئ عن طبائع من يتعاملون معهم و يحكمونهم و يصلوا بتبجحهم لقراءة كتاب كشخصية مصر لعالم اغتالوه يوما، و تتوالى الاغتيالات، . !!

اللغة راقية و سلسة تطعمها كلمات ريفية تجعلها تنبض بالحياة و تُشعرنا بالمناخ و البيئة الاجتماعية و الثقافية فى كفر الجيوشى.
الأسلوب سردى حيث يحكى طيف حسان بشكل استرجاعى كل ما حدث و يتخلله حوارات بسيطة فى حال حاجة السرد لذلك.
برع الكاتب حسام الشحات فى تحديد ملامح كفر الجيوشى بدقة سواء ملامحه السياسية او الاجتماعية او الجغرافية و اهتم كثيراً بالتفاصيل الوصفية التى أضفت على الرواية جمالا و اشعرتنا بروح الريف و اهل الريف و جعلتنا و كأننا نرى المشاهد و الأشخاص.

رواية كفر الجيوشي من تأليف د. حسام الدين الشحات

مراجعة  آلاء أسامة

Report

اخبرنا برأيك ؟

200 نقاط
Upvote

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *