رواية كوفاديس دَسِمة، مليئة بالأحداث، مُدهِشة، حارقة، وقادرة على أن تحتفظ بأنفاسِكَ اللاهثة من أوّلها إلى آخرها عبرَ رحلةٍ مليئةٍ بالمُغامرات تستمرّ ما يقرب من 800 صفحة. صادرة عن دار المدى في بيروت وبغداد في طبعتها الأولى عام 2016م.
مختصر رواية كوفاديس
الموضوع الرّئيس الّذي اتّخذه الكاتب البولوني شنكوفيتش هو قصّة الحبّ الّتي قامتْ بين (ليفيا) الّتي تجري فيها دماء ملكيّة وتؤمن بالمسيح وبين (فينيكوس) القائد الرّوماني الّذي خاضَ حروبًا عديدةً وانتصر فيها. فينيكوس لم يكنْ يؤمن بالمسيحيّة، ولم يكنْ يعرفُ من الحبّ غيرَ الجسد، ولم يعرف من الحياةِ غيرَ السّيف تحوّل تدريجيّا عبرَ سِحر الحبّ وتأثيره إلى مؤمنٍ بالمسيح قادرٍ على أنْ يعيشَ دينَهم بكلّ ما فيه من محبّة وتسامُح.
بترونيوس أحد أهمّ شخصيّات الرّواية، تربطه بفينيكوس علاقة قرابة، وتربطه بنيرون (القيصر الرّومانيّ) علاقة حُكم، إذْ يُعدّ هو و(تيفالينوس) أهمّ رَجُلَين في بلاطِ القيصر. يتميّز بترونيوس بأنّه النّاقد الجَماليّ لأعمال (نيرون) وكان عالِمًا بالأدب والشّعر والموسيقى، بالإضافة إلى أنّه كاتبٌ وقارئٌ يحرصُ على متابعة الأعمال الّتي تصدر حديثًا. أمّا (بترونيوس) فلم يكنْ من مؤهّلٍ له يُكسِبه الحُظوةَ لدى (نيرون) إلاّ خلفيّته العسكريّة إذْ كان قائد الحرس الإمبراطوريّ لديه.
وكثيرًا ما كانتْ تنشأ المنافسة بين الاثنَين على قلب القيصَر. كانَ تيفالينوس يُعوّض قلّة ثقافته بقوّته العسكريّة بتهديده بالبطش بكلّ معارضي القيصر، بالإضافة إلى بذخه في إقامة المآدب لاستمالة القيصر وحاشيته.
كان (نيرون) كما كشفتِ الرّواية في مواضع كثيرة شاعرًا فاشِلاً، وممثّلاً مسرحيًّا بائسًا، وعازِفًا مًضجِرًا، وكان بترونيوس يُنافِق له أحيانًا مع استِخدامه بعض الضّربات النّقديّة المُوجِعة لكتاباته لكي يأمن شرّه مرّة، ولكي يحقّق منفعة له ولقريبه فينيكوس فيما يخصّ حبيبةَ الأخير وهي (ليفيا).
كشفت الرّواية أيضًا مدى الرّوح الإجراميّة المُرعِبة الّتي يتمتّع بها (نيرون)، كان هذا الطّاغية قادرًا على القتل والصّلب والذّبح والحَرق بأعصابٍ باردةٍ، وعازِمًا – في نهاية الرّواية – على إصدار حُكم بإعدام كلّ مسيحيّ في روما، وفتح المدرّجات والإستاديوم لكي تنهشَ الوحوشُ لحومهم، وتَغِلَ في دمائهم!!
(ليفيا) الّتي استقرّتْ عندَ عائلة أولوس وبومبينا، إذ كان الأوّل قائدًا حربيًّا عجوزًا استقرّتْ عنده ليفيا بعدَ تقاعده من الحرب، وكانتْ ليفيا رهينةً منحها له القيصر نفسه،ـ ورآها عنده (فينيكوس) فأحبّها، وذابَ بها هُيامًا، وهي بدروها وهي لم تبلغ الخامسةَ عشرةَ ربّما من عمرها قد وقعتْ في غرام هذا البطل الخارق (فينيكوس)، وإنْ كانَ حُبًّا طاهِرًا محكومًا بقواعد المسيحيّة الطاهرة لا بقواعد الرّومان الفاجرة!!
سَعَى (فينيكوس) إلى الفوز بليفيا كمحظيّة من محظيّاته لأنّه قد أحبّ جسدها الجميل الرّائع، أمّا هي فظنّتْ أنّه يريدها زوجةً، ولمّا اكتشفتْ نواياه الذّئبيّة في أوّل مأدبةٍ تحضرها مع فينيكوس وبترونيوس في قصر القيصر.
الكاتب في الحقيقة أبدع في وصف المجون الذي تخلّل هذه المأدبة القيصريّة، والمآدب اللاّحقة. في اللّحظةِ التي كانَ (فينيكوس) الثَّمِل من الشّراب يميل – وهو الجالس بجانب ليفيا – عليها لينال منها قبلةً، فزعتْ منه ببراءتها وكرهتْه بعدَ أنْ دخلَ قلبَها برومانسيّته في حديقة أولوس (أبيها بالتّبنّي) حينَ زارها هناك. ضَغَط بساعديه القوّيتين عليها، لكنّه تفاجأ بأنّ عِملاقًا يفوقه قوّة وقدةً وهو (أرسوس) ينتزعها من بين يدَيه، ويخرج بها من المأدبة، ويختفي هو وإيّاها.
عرفَ (فينيكوس) من خلال الحوارات السّابِقة أنّ أولوس وبومبينيا وابنتهما ليفيا وشقيقها أولوس الصّغير هم من المسيحيّين الذين يؤمنون بالإله الأوحد كلّيّ القُدرة. وبدأتْ من هناك رحلة البحث عن ليفيا؛ حيثُ صمّم لغضبه الشّديد من الموقف الّذي تجرأ فيه عبدٌ مجهول وهو (أرسوس) عليه؛ صمّم أن يُعيدها وينالَ جسدها، ويجلدها، ويُعذّبها.
استعانَ في البحث عنها برجلٍ يدّعي الفلسفة اسمه (شيلون)، استطاع أن يدلّه هو وبترونيوس على مكان اختبائها مع أرسوس وكلاوسيوس (الطبيب) وآخرين. ويسوق الكاتب مشهديّة الظّهور الأوّل للحواريّ (بطرس) أو (سمعان بطرس) تلميذ المسيح، والصّيّاد الّذي قال له المسيح حينَ التقاه أوّل مرّة، تعال معي وستصيدُ قلوبَ النّاسِ بدلاً من السّمك: “16وَفِيمَا هُوَ يَمْشِي عِنْدَ بَحْرِ الْجَلِيلِ أَبْصَرَ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ. 17فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ:«هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا تَصِيرَانِ صَيَّادَيِ النَّاسِ». (مرقس: 1 : 16-17) إذ ظهر أوّل مرّة في قبوٍ تحت مقبرةٍ في أطراف روما، تجمّع حوله المسيحيّون وكانوا بأعدادٍ هائلة، كانوا يدخلون من بوّابة المقبرة ببطاقات دخول خاصّة، ويصطفّون في صفوف منتظمة والمشاعل في أيديهم وسطَ ظلامٍ كثيفٍ لم تُبدّد المشاعل كامل ظُلمته، وكانَ مِمّا وعظهم به: “أوصاهم بالابتِعاد عن الإسراف والمُتَع، وبمحبّة الفقر، والتِزام النّقاء الخلقيّ، والعدالة والطّاعة، وحذّرهم من الخيانة والغشّ والكذب. وأنْ يكونَ كُلُّ منهم قُدوةً أمام أخيه ومِثالاً يُحتَذى، “. الرّواية ص 241.
بدأتِ المسيحيّة تنتشر في روما انتِشارًا سريعًا، في أثناءِ بحث فينيكوس ع ليفيا استطاع أن يجدها بمساعدة (شيلون) وبمرافقة المُجالِد والمُصارِع المشهور (كروتون) في أحد الأحياء والعمارات الفقيرة. ظلّ شيلون في الخارج يضطرب قلبُه رعبًا، كان فينيكوس متأكّدًا من أنّ عمليّة اختِطاف ليفيا عمليّة سهلة، وخاصّة أنّه أحضر أحد أقوى مُصارِعي روما، والذي يستطيع أن يسحق أيّ مُصارِعٍ يقفُ أمامه، بالإضافة إلى أنّ فينيكوس نفسه مقاتل شَرِسٌ وبطلٌ قوميّ حقّق انتصارات كبيرة، لكنّ الّذي حدث هو العَكس؛ إذ حينما دَخَلا إلى السّاحة الّتي تتوزّع الغرفة الّتي يُعتَقَد أنّ ليفيا داخِلها من حولها، ظهر أرسوس الّذي أنقذها أوّل مرة من فينيكوس على المأدبة، فتصدّى له كروتون ليسحقه، أمّا فينيكوس فقد تركهما يتصارعان وهو لا يشكّ في أنّ الغلبة لكروتون، ثمّ ولج إلى الغرفة الّتي تأوي إليها ليفيا، واندفع نحوها واختطفها، وحينَ خرج إلى السّاحة رأة (كروتون) يغرق في دمائه وقد قتله أرسوس، فامّا رآه الأخير وفي يديه ليفيا هجم عليه قائِلاً: “جاءكَ الموت”، لكنّ ليفيا صرختْ بأرسوس: “دَعه؛ لا تقتله”؛ فتركه بعد أنْ أحدثَ كسْرًا في ذراعه، وأصابه بجروحٍ عِدّة. مكثَ (فينيكوس) في بيتِ ليفيا البسيط وبقية المسيحيّن، وقامَ كلاوسوس الطّبيب بعلاجه، وجلستْ (لييا) إلى جانبه تسهر على راحته، وتداويه، وتسقيه ما يكتبه له الطّبيب من وصفات، ومن هنا، بعدَ أنْ قابلتْ (ليفيا) إساءة فينيكوس إليها بهذا الإحسان الشّديد تبعًا لتعاليمها المسيحيّة، من هنا بدأ يُحبّها الحبّ الحقيقيّ، الحبّ الّذي تحوّل في النّهاية إلى استعداده بالتّضحية بكلّ شيءٍ من أجلها؛ وقد فعل.
ثمّ تتوالَى الأحداث، ويعود الكاتب ليُسلّطَ الضّوء على حياةِ القيصر المجنون، وفي غمرة تأليفه للشّعر وإلقائه له، تمنّى أن يُعايِنَ بنفسه حريقًا مثل حريق طروادة ليعيشَ الحدث ويكتب عنه بشكلٍ أكثرَ صِدقًا؛ كانت هذه الرّغبةُ مخفيّة إلى أنْ صرخَ تيفالينوس قائِلاً: مُرني أن أحرقَ روما من أجل أنْ تكتبَ في الحريق قصيدةً تليقُ بمقامِ فنّك وستجدها في ساعاتٍ قد تحوّلتْ إلى رمادٍ.
ظلّتْ رغبة القيصر مكتومةً إلى أن جاء اليومِ الّذي احترقتْ فيه روما، وبدا أنّ الحريقَ مُدبّر من خلال إلقاء بعضِ جنود فيالق تيفالونيس الشّعل الملتهبة على الأبنية، ومَنْع النّاسِ من إطفاء الحريق، وتهديدهم لهم بالقتل إذا ما أطفؤوه، بدأ الحريق بالسيرك وانتشر بعدَ ذلك في أرجاءِ روما، وقد قدّمه الكاتب بأسلوب مُدهِش ربّما يتفوّق على الحقيقةِ نفسِها!!
اتُّهِمَ المسيحيّون مباشرةً بأنّهم هم مَنْ قاموا بإحراق روما، ومن قبلُ كانوا قدِ اتُّهِموا بأنّهم يقتلون الأطفال ويشربون من دمائهم، ويسمّمون المياه، ويعيثون في الأرضِ فسادًا، وبدأ العقاب القيصريّ المُرعِب للمسحيّين بشكلٍ لا يُصدَّق، أُطلِقتِ الأسود والوحوش لنهشِ لحومِ المسيحيّين الّذين كاننوا يرمعون في هيئات استِسلاميّة ويرفعون أيديهم إلى السّماء ويهتفون باسم المسيح، أمّا العِقاب الّذي بدا أنّه ليسَ بشريًّا، فكان إضاءَة حديقة القيصَر من خلال إقامة آلاف الأعمدة الخشبيذة مطليّة بالقَطِران وصَلْبِ المسيحيّين فوقها وإضرَام النّيران فيها، كانَ أكثرُ هذه المواقف بُكائيّة هو مشهَد حَرْقِ الطّبيب كلاوسيوس الذي شاهده شيلون؛ شيلون الذي كان بوشايته سبب عذابات المسيحيّين هذه: “جاءته نظرةٌ من الطّبيب كلاوسيوس فوقَ القائم المُشتعل. ما زال حَيًّا. أحنَى وجهه المُتوجِّع كأنّما أرادَ أنْ يُلقِي نَظرةً أخيرةً على جَلاّدِهِ الّذى وَشَى به، وَحَرَمَه من زوجته وأولاده، وأرسلَ إليه مَنْ يغتاله، ومِن ثَمَّ حينَ صَفَحوا عنه باسمِ المسيح لم يَتَوانَ عن تسليمه لهؤلاء الجَلاّدين.
الإنسان لم يُواجِه إنسانًا أبدًا بمثلِ هذا الأذى الدّمويّ الأعنف من نوعه”. (الرّواية ص 682). ثمّ دبّ الرّعب في أوصال شيلون من شناعة فِعلته، وقد جمّد الذّعر الدّمَ في عروقه، فهتفَ بصوتٍ مُرعِب: “كلاوسيوس باسم المسيح سامِحني”. تحرّكتْ راسُ الشّهيد على نَحوٍ لا يُلاحَظ، وصدرتْ من أعلى القائم عبارةٌ على هيئةِ تنهيدةٍ: “سامَحتُك، “. عند ذاكَ لم يتمالَك شيلون نفسه وصرخَ في الجماهير المُحتشدة بالآلاف: “يا شعبَ روما أُقسِم بموتي أنّ كُلَّ مَنْ يُبادون هنا بريئون، لأنّ مَنْ أحرقَ المدينةَ هُو هذا.. وأشارَ بإصبعه نحو نيرون”. وكانتِ الفاجِعة، وبداية الثّورة. بعدَها قامَ تيفالونيس حينَ فشلَ في إقناع شيلون بسحبِ اعترافه، قامَ بقطع لِسانه، وتمزيقِ جسده.
تتعرّض الرّواية كذلك لعمليّة صَلْبِ كُلِّ من الحواريّ (بطرس) والرّسول (بولس)، وجعل مشهديّة قَتْلِهما سريعةً لم يُفصّل فيها كما في بقيّة المشاهد، ويأتي في النّهاية على نهاية القيصر الّذي ينبطح على ظهره،ـ ويطلب منهم أن يحفروا قبره، ثُمّ يقرّب الخنجر من عنقه ليطعنَ نفسه، لكنّ جُبنه يمنعه من ذلك ويجرح نفسه جرحًا بسيطًت، فيقوم أحدُ جنوده بالضّغط بقوّة على يده الّتي تحمل الخنجر فينثعب الدّم من عنقه فوّارًا، ويضربُ القيصر الأرض برجلَيه ليُعلِنَ عن موته.
لي بعض المُلاحَظات على الرّواية، منها مثلاً أنّه قال إنّ بولس كان يؤمن بإله واحدٍ أحدٍ، لكنّ الحقيقةَ أنّ بولس هو أوّل من رسّخ عقيدةَ التّثليث عندَ المسحيّين، وأوّل مَنْ قال بفكرة التّجسيد، فأظهره بغيرِ صورته الّتي ترويها كتب التّاريخ المسيحيّ.
على جانبٍ آخَر أعترف بأنّه لم يمرّ عليّ روائيّ وَصّاف بقدرةِ هذا الرّوائيّ المُدهِش، إنّ حرفَه قادِرٌ على أنْ يكونَ عدسةً دقيقةً تُظهِرُ شاشةً واضِحة تجعلكَ تعيشُ المشهدَ بكامل تفاصيله.
بقي أن أقول: إنّني انصحُ بقراءة الرّواية، لِمَنْ أرادَ أن يعرفَ تاريخ روما تحت حُكم نيرون، وتاريخ المسيحيّين في عصره.