الماسونية وفرسان المعبد
عندما يتناول معظم المؤرخين تاريخ الماسونية يرجعون بدايتها إلى القرن الثامن عشر، حيث تأسست في إنجلترا بشكل رسمي، ولكن جذورها تمتد إلى الحروب الصليبية، أي إلى القرن الثاني عشر حيث تشكلت طريقة غامضة تحت اسم (فرسان المعبد) Templer knighto. ومع أن الصبغة الظاهرية للحروب الصليبية كانت دينية، إلا أن العامل الاقتصادي كان يشكل دافعًا قويًّا لها لا يمكن إنكارها؛ فأوربا كانت تعيش آنذاك في فقر مدقع، وكان السياح إلى الشرق ولا سيما إلى الشرق الأوسط. يتحدثون عن الغنى والرفاه في هذه البلدان، ويفتحون شهية شعوب أوربا لغزوها. فلما دعا البابا أوريان الثاني عام 1095م ملوك وأمراء وشعوب أوربا إلى إنقاذ الأراضي المقدسة في فلسطين من أيدي المسلمين، هبَّ الجميع لتلبية ندائه، وهكذا تشكل جيش صليبي.
والدليل على أن العامل الديني لم يكن الدافع الوحيد أن هذا الجيش الصليبي قام بنهب المدن التي مر بها حتى وإن كانت هذه المدن مسيحية؛ فمثلاً تعرضت مدينة القسطنطينية (إسطنبول) -وكانت من أشهر المدن المسيحية- إلى نهب كبير من قبل الجيش الصليبي في الحملة الصليبية الخامسة. جنود عيسى ولا نتعرض هنا إلى وصف الوحشية التي اتصفت بها هذه الجيوش والمذابح العديدة التي أوقعوها بالمسلمين، فهذا حديث يطول وهو ليس موضوعنا هنا. ولكن نقول: إن هذه الجيوش عندما وصلت إلى مدينة القدس عام 1099م واستولت عليها بعد حصار قصير، أوقعت مذبحة رهيبة بسكانها من المسلمين واليهود، ويكفي الرجوع إلى كتاب “أوجست كري” August c.Krey لمعرفة الفضائح التي ارتكبها الجيش الصليبي في القدس[1].
ولكن أصبح المهم بالنسبة للجيش الصليبي المحافظة على هذه الأراضي التي استولوا عليها، والتي كانت تمتد من فلسطين حتى منطقة أنطاكية. وأسسوا دولة صليبية فيها؛ لذا ظهرت بعض الطرق العسكرية، هاجر أصحابها من أوربا إلى فلسطين، وعاشوا فيها أول الأمر معيشة الرهبان ولكنهم كانوا يتدربون على القتال للقتال ضد المسلمين. ولكن إحدى هذه الطرق سلكت طريقًا مختلفًا.. هذه الطريقة عرفت فيما بعد بـ (فرسان المعبد) Templer Knighto وقد تشكلت عام 1118م، كما كان يطلق عليها أيضًا اسم “جنود عيسى ومعبد سليمان الفقراء”.
فرسان المعبد: بدأت هذه الطريقة بتسعة أعضاء، ثم اتسعت. والسبب الذي من أجله ارتبط اسم هذه الطريقة بمعبد سليمان أنهم اتخذوا التل الموجود بجوار آثار معبد سليمان مقرًّا لهم. وسرعان ما كسب هؤلاء الجنود الفقراء ثروة كبيرة جرَّاء قيامهم بحراسة الحجاج المسيحيين الوافدين إلى فلسطين، وأخذهم مبالغ كبيرة منهم. انقلب الجنود الفقراء إلى أغنياء، وبدأت هذه الطريقة بأعمال الإقراض بالربا حتى إنهم يعدون من أوائل من أسسوا نوعًا من المصارف الربوية القائمة مع إعطاء الصكوك. ولكن يجب أن نشير إلى أن فرسان المعبد هؤلاء كانوا من أقسى الناس على المسلمين، واشتركوا في أفظع المذابح ضدهم؛ لذا عندما هزم البطل صلاح الدين الأيوبي الصليبيين في معركة حطين عام 1187م، واستعاد مدينة القدس من أيديهم، صفح عن معظم المسيحيين، ولم يصفح عن فرسان المعبد بل أعدمهم[2].
ومع أن فرسان المعبد ضعفوا في فلسطين بعد هزيمة “حطين” إلا أنهم حافظوا على كيانهم في أوربا، بل ازدادوا نفوذًا بمضي الوقت ولا سيما في فرنسا، حتى أصبحوا “دولة داخل دولة” في العديد من الدول الأوربية، وأدى هذا إلى قلق الملوك والحكام.
انفراط العقد: وأخيرًا أعلن الملك الفرنسي فيليب والبابا كلمنت الخامس تحريم هذه الطريقة وإلقاء القبض على أعضائها عام 1307م. ومع أن بعضهم نجح في الفرار إلا أنه تم القبض على معظم أفرادها. وفي أثناء المحاكمات الطويلة التي أعقبت ذلك اعترف هؤلاء بأنهم تركوا الدين المسيحي فعلاً، وأنهم كانوا يهينون السيد المسيح وأمه؛ لذا تم إعدام زعمائهم وعلى رأسهم “الأستاذ الأعظم” جاكوس مولاي Jacques de Molay عام 1314م، وسجن الباقون، فانفرط عقد هذه الجمعية في فرنسا. ولكن هذه المحاكمات والإعدامات لم تستطع القضاء على فرسان المعبد. فقد نجح بعضهم في الفرار من فرنسا لاجئين إلى أيرلندا وملكها “روبرت بروس” Robert Bruce الذي كان الملك الوحيد في أوربا الخارج عن إمرة البابا ونفوذه وسيطرته. وهناك أعادوا تنظيم صفوفهم مرة أخرى، ولكنهم وجدوا طريقة جديدة في التخفي عن الأنظار والاستمرار سرًّا في نشاطهم، وتسللوا إلى منظمة “البنايكن”، وكانت من أقوى المحافل المدنية في بريطانيا آنذاك، وسرعان ما سيطروا عليها تمامًا[3]، ثم تغير اسم هذا المحفل إلى “محفل الماسونية”. استمرار النشاط إذن لم يختف فرسان المعبد، بل استمروا بنشاطهم وعقائدهم تحت سقف “المحفل الماسوني”.
ويعترف الماسونيون في تركيا بهذه العلاقة بين فرسان المعبد والماسونية. ويكفي الإشارة إلى المقالة التي ظهرت في مجلة الماسونيين الأتراك “معمار سنان” Mimar Sinan العدد 77 عام 1990م صفحة 78-81 بقلم “إندر آركون Ender Arkun تحت عنوان “نظرة سريعة إلى جهود الماسونيين في التطور الفكري”.. أي أن الماسونيين اليوم بعقائدهم وفلسفتهم امتداد لـ “فرسان المعبد”. ولكن ما فلسفة وعقائد فرسان المعبد؟ ولماذا انحرفوا عن الدين المسيحي وتحولوا إلى عقيدة ضالة ومنحرفة؟ وما الذي أدى بهم إلى هذا الانحراف، عندما كانوا يقيمون في القدس؟ قام كاتبان بريطانيان ماسونيان هما “كرستوفر نايت” Christopher Knight و”روبرت لوماس” Robert Lomas ببحث طويل عن جذور الماسونية نشراه في كتاب “مفتاح حيرام” The Hiram Key وهما يتفقان على أن أصل الماسونية ومنشأها يرجع إلى فرسان المعبد، ولكن السؤال الأهم: “ما جذور عقائد هؤلاء الفرسان؟”.. يقول هذان الكاتبان: ليس هناك من دليل على أن فرسان المعبد كانوا يقومون بحماية الحجاج المسيحيين. ولكننا نملك أدلة قوية على قيامهم بحفريات كثيرة قرب خرائب معبد “هيرود” (وهو المعبد الذي شيد كإعادة لمعبد سليمان وفي نفس مكانه)[4].
التقاليد السرية: ويسلط المؤرخ الفرنسي “غيتان لافورج” Gaetam De Laforge الضوء على هذا الموضوع فيقول: إن الغاية الرئيسية لفرسان المعبد كانت العثور على الكتابات والآثار التي تشرح بقاء العادات والتقاليد السرية اليهودية والمصرية القديمة[5]. ويقول مؤلفا كتاب “مفتاح حيرام”: إن البحوث والحفريات التي قام بها فرسان المعبد قرب خرائب معبد سليمان لم تذهب هباءً، بل حصلوا على أشياء معينة كانت كافية لتغير نظرتهم في الحياة.. لقد توصلوا إلى “كابالا” Cabala أي توصلوا إلى فرع من فروع الباطنية اليهودية السرية، فانحرفوا عن عقيدتهم المسيحية. وكابالا يضم نوعًا من أنواع التعاليم التي تبحث عن المعاني السرية والتصوفية الموجودة في التوراة، وفي المصادر الأخرى للدين اليهودي. وعندما قام الباحثون والمؤرخون بالتنقيب عن أصل “كابالا” فوجئوا بأن هذه التعاليم تستند إلى فلسفة وثنية كانت موجودة قبل التوراة، ثم تسللت إلى الدين اليهودي. وإلى هذا يشير الماسوني التركي “مراد اوزكن آيفر” Murat Ozgan Ayfer في كتابه (ما الماسونية؟) فيقول: “لا أحد يدري على التحقيق كيف ومتى ولد “كابالا”، ولكن المعلوم أنه مرتبط بالدين اليهودي ويحمل صيغة ميتافيزيقية وتعاليم باطنية. ومع أنه يذكر وكأنه باطنية يهودية، إلا أن معظم تعاليمه قديمة وكانت موجودة قبل ظهور التوراة”[6].
انحراف العقل: أما المؤرخ اليهودي ثيودور رينخ Theodur Reinach فيصف كابالا بأنه السم السري الذي دخل إلى عروق الدين اليهودي. أما المؤرخ اليهودي الآخر “شلمون رينخ” Salomon Ranch فيصف كابالا بأنه أسوأ انحراف للعقل الإنساني[7]. ولكن لماذا كان كابالا أسوأ انحراف للعقل الإنساني؟ لأنه كان ذا علاقة وثيقة بالسحر.. وبالسحر الأسود في الأخص. لقد شكل كابالا منذ آلاف السنين أهم قاعدة لكل نوع من أنواع السحر ولمعظم الطقوس السحرية السرية. ولكن ما مصدر “كابالا”؟ ومن أين نشأ؟ وكيف تسلل إلى الدين اليهودي؟.. من مصر القديمة.. هذا ما يذكره المؤرخ اليهودي Fabre diolivet حيث يقول: إن بعض زعماء ورجال الدين اليهودي عرفوا تقاليد كابالا من مصر القديمة، ونقلوها من جيل إلى جيل كتعاليم شفوية[8].
المراجع: [1] انظر: 1921. P. 261 Account of eye witnesses and Participants Princeton London Agust c. Krey The first crusade The. [2] انظر: كتاب هارون يحيى: الماسونية العالمية ص15Harun Yahya Global masonluk Kultur yayclk. Ist. 2002. [3] انظر: John J. Robinson Born in Blood The lost secrets of Free masonry New York. M. Evan company 1989. [4] صفحة 37 نقلاً عن المصدر رقم (2): Christopher Knight and Robert Lomas The Hiram Key Arrow Books 1997. [5] عن المصدر نفسه صفحة 37: G. Delafore The Templar Tradition in the age of Aquarius C. Knight. Robert Lomas. The Hiram Key. [6] صفحة 298-299: Murat zgan Ayfer Masonluk nedir ve masonler . Istanbul 1992. [7] المصدر رقم (2)، صفحة 25. [8] المصدر السابق، صفحة 25. يطلق القرآن الكريم على هؤلاء الكهان اسم “السحرة” لغلبة اشتغالهم بالسحر وإضافة شعائر وطقوس سحرية إلى الطقوس الوثنية. أما في الآثار المصرية القديمة فيشار إليهم بـ “كهنة آمون”.
حنان عبد الرازق