الفهرس
لا شك أن مهنة الطب من اسمي المهن الإنسانية الرفيعة ، حيث يقوم فيها الطبيب بإسعاف وإنقاذ العديد من الأرواح، ولكن ماذا لو كان هذا طبيب هو من يقوم بإزهاق أرواح مرضاه الأبرياء بدماء بارده ؟
تعود بدايات هذه الواقعة الي أوائل التسعينيات ، انه الدكتور هارولد شيبمان الذي تسبب في مقتل ما يقارب من ٢٣٦ شخصاً في فترة وجيزة ليكون بذلك صاحب الرقم القياسي بين مجرمي العالم من حيث عدد القتلى والذي لم تشهد بريطانيا عبر تاريخها الطويل جريمة ببشاعة جرائمه التي هزت أركان الدولة عقب اكتشافها و الإعلان عنها.
دلال الطفولة لطبيب الموت هارولد شيبمان
ولد هارولد شيبمان لعائلة من الطبقة العاملة العادية في بريطانيا سنة ١٩٤٦ وكان ترتيبه هو الإبن الأوسط بين إخواته ، كان الإبن المفضّل لوالدته فيرا.
واشتهر حينئذ بـ(فريد)، وذلك لأن اسمه الأوسط كان فريدريك، وقد لوحظ العناية والرعاية المميزتين اللتين كانت أمه تبديهما له دوناً عن بقية إخوته منذ صغره ، فقد شاهدت الأم في ابنها هذا الأمل الأوحد في خروج هذه العائلة من حالتها المعدومة إلى بر تحصيل الأموال لذكائه الحاد منذ صغره وتميّزه الكبير في دراسته.
وبعد مرور سنين كثيرة اصابت العائلة الصدمة العائلة عند معرفتها بأن أمهم فيرا مصابة بسرطان الرئة ، وظلت تعاني من السرطان وتصارعه بحقن المورفين والمسكنات حتى توفت سنة ١٩٦٣ في الواحد والعشرين من شهر يونيو.
الصدمة كانت قوية على هارولد لدرجة اليأس وظل اسير هذه الصدمة حتى تملكه اليأس ، وفي ظل هذه المشاعر المضطربة قرر أن يمارس الطب والتحق بإحدى الكليات الطبية في الجامعة، وحدث ذلك بعد قبوله في كلية الطب بجامعة ليدز و لكنه فشل في إكمال تسجيله بعد رسوبه في اختبار القبول الرئيسي والذي حرمه من ممارسة الطب حتى ذلك الوقت.
زواج مثالي لهارولد شيبمان الشاب
وعلى الرغم من الأخبار المحزنة في حياته المهنية لكنه قابل الآنسة برايم روز التي أصبحت فيما بعد زوجته وتم الزواج وعمر هارولد لم يتجاوز ١٩ سنة وبرايم روز ١٧ سنة وقد أكمل دراسته الجامعية في الطب بعد ذلك، حيث نجح في إجتياز اختبارات القبول ليلتحق بمركز للتدريب الطبي بمدينة توردموردن بمقاطعة يوركشير، في ذلك الوقت اصبح هارولد أباً لطفلين وبدأ ممارسة الطب في المركز حتى اكتشف إدمانه الشديد على المسكنات والمهدئات الطبية والتي كان يقوم بتحرير وصفات طبية لعينات كبيرة منها ليستخدمها لاحقا في منزله وكان ذلك في العام ١٩٧٥.
التحق هارولد شيبمان بعد ذلك بفترة وجيزة ببرنامج لتأهيل مدمني العقاقير وتعافى من مشكلته معها ، ومن ثم قام بالتقدم لوظيفة وتم قبوله فيها على الفور وكانت بمركز دوني بروك الطبي بمدينة هايد.
وكانت هذه المرحلة من أنجح مراحل حياته، حيث عرف عنه بأنه طبيب مجتهد ومثابر، بالإضافة إلى كونه متكبراً بعض الشيء مع الطاقم الطبي الأقل منه سناً ولكنه بلا شك اكتسب هارولد سمعة قوية في المركز الطبي الذي يعمل به، ولم يكن هناك اي شكوك حول تصرفاته آنذاك.
دافن الموتى يكشف أول خيوط القضية
من كان يعتقد أن من سيكشف عن جرائم هارولد شيبمان هو حانوتي البلدة الذي بحنكته الخاصة تمكن من ملاحظة التشابه الكبير في أوضاع و ظروف الوفيات التي بدأت تنتشر بين مرضى الدكتور هارولد شيبمان وكان لقلقه الكبير بهذا الأمر أن صارح الدكتور شيبمان بما يدور في ذهنه من قلقه إزاء أعداد الوفيات وتشابه ظروف وفاتهم فغالب المرضى توفوا وهم في ملابسهم الكاملة، بل في أوضاع لا تظهر بأنهم قد عانوا من موتهم، بل غالبيتهم أما توفوا جالسين بوضعهم العادي أو وهم مسترخون على أريكتهم الخاصة.
ولكن الدكتور هارولد شيبمان احبط عزيمة الحانوتي و أبلغه بأن وفاتهم جميعاً طبيعية للغاية وليس هناك داعي للقلق، ولكن التحقت طبيبة جديدة بالمركز تدعى سوزان بوث لاحظت الأمر نفسه وبدأت باجراء تحقيق خاص في الموضوع حتى تم إبلاغ الشرطة ومركز الشؤون الداخلية بالأمر ، وعلي الفور تم اعتقال هارولد وإيداعه السجن لحين التحقيق معه في هذا الأمر الخطير.
وبعد التحقيق معه لم يتم الكشف عن أي تاريخ اجرامي لهذا السفاح الخطير، وكان من اخطاء الشرطة هو أنها لم تقم بالكشف عن ملفاته في المركز الذي عمل به سابقا، وإلا لكانت كشفت عن الكثير من الملابسات الخطيرة التي حدثت اثناء ممارسته المهنة هناك، حيث كان يقوم بتبديل سجلات مرضاه لإخفاء ملابسات ومسببات الوفاة لكل حالة.
ونظراً لمكانته الاجتماعية المحترمة التي كان يحظى بها هارولد كطبيب ورب أسرة ومثابر في عمله كان من الصعب إثبات ذنبه في الوفيات التي حدث للمرضى الأبرياء، ولم يتم الكشف عن الملابسات الفظيعة لهذه الوفيات إلا بتصميم وعزيمة فتاة كانت أمها واحدة من ضحايا هذا الطبيب المجرم وتدعى انجيلا وودروف، والتي لم تقتنع إطلاقاً بمسببات وفاتها.
وكانت أم انجيلا سيدة ثرية تبلغ من العمر ٨١ عاماً وتدعى كاثلين غروندي قد وجدت متوفاة على أريكتها في نفس اليوم الذي زارها فيه الدكتور شيبمان في زيارة طبية خاصة، وبعد إطلاع انجيلا على تقرير وفاة والدتها والذي كان شيبمان قد أشار فيه لعدم الحاجة لعمل تشريح لجثتها قد اكتشفت أن التقرير مزيف نوعاً ما كما قام هارولد بتزوير وصيتها بآلة طباعة قديمة وبعد أن أوصلت الدليل للشرطة اقتنعت بأقوال انجيلا ليقوموا بتفتيش منزل هارولد وتحصلوا على عدد من مجوهرات السيدة العجوز في منزله وعينات كبيرة من سائل المورفين المخدر والذي اكتشف فيما بعد أنه سبب الوفاة الرئيسي للسيدة كاثلين بعد أن أعطيت جرعة زائدة أدت لوفاتها بعد ثلاث ساعات من زيارة شيبمان، كما وجد المحققون آلة الطباعة القديمة التي قام هارولد باستخدامها في تزوير الوصية الخاصة بالسيدة العجوز.
(المورفين) سلاح جرائمه
بدا واضحاً لرجال الشرطة أن القضية لن تنحصر في حالة السيدة كاثلين فقط، بل ستمتد لحالات أخرى كثيرة وكان توقعهم في محله، حيث كشف المحققون عن حالات كثيرة من التزوير وتبديل وثائق طبية للمرضى المقتولين وحاول هارولد أن يخفي ملابسات جرائمه ولكن الشرطة ركزت بحثها في الوفيات التي حدثت عقب زيارات مباشرة من قبل السيد هارولد بالإضافة إلى كشفها عن حقيقة لم ينتبه لها السيد هارولد أثناء قيامه بتبديل وثائق الوفيات، حيث إن الكمبيوتر يقوم بتسجيل الوقت على كل تقرير مما سهل على المحققين من الكشف عن التقارير الأصلية بمقارنة التوقيت الزمني المسجل لتوقيت الوفاة وزمن طباعة التقرير وفي النهاية تم القبض عليه واتهامه ب١٥ قضية قتل وتهمة احتيال وتزوير وثائق رسمية وذلك في السابع من سبتمبر سنة ١٩٩٨.
وبعد عدد من الجولات الساخنة في المحكمة والتي غلبت عليها مشاعر الحزن والحقد على هذا الطبيب وبعد عرض الشهود و الإستماع إلى شهادتهم و عرض كافة القضايا على لجنة المحلفين لم يتمكن محامو هارولد من الدفاع عنه أو حتى تخفيف حكمه بسبب تكبره وغروره اللذين كان لهما الدور الأكبر في اتضاح كذبه خلال اعتلائه منصة الشهود لسماع أقواله حول الاتهامات مما قلّل من حظوظه في كسب القضية والذي حكم القاضي في نهايتها عليه بـ١٥ حكماً مؤبداً وأربع سنوات لقضية التزوير لتأتي المحصلة النهائية بعقوبة أبدية في السجن دون أي فرصة لإطلاق سراح مشروط وكان ذلك في الواحد والثلاثين من شهر يناير سنة ٢٠٠٠.
والكثير ممن عملوا معه وتابعوا قضيته يتوقعون أن يتجاوز ضحاياه ٢٣٦ ضحية على مدى أربعة وعشرين عاماً قضاها في مهنته كطبيب معالج، ولكن يبدو أن سر هذه الوفيات سيدفن مع هارولد المتوحش في قبره دون أن يعرف حقيقته أحد.