صنايعية مصر – صدقي سليمان
اسم صناعته : السد العالي
كانت الدولة تواجه مشكلة كبيرة، بدأ العمل في السد العالى بهمة ثم أصابه بعض الفتور، معدلات الإنجاز الضعيفة تشير إلى خطر قادم، فخطة العمل كانت قائمة على الإنتهاء من المرحلة الأهم في البناء و هي تحويل مجرى النيل قبل مايو 1964، إن لم يتم تحويل المجرى قبل هذا الموعد سيجرف الفيضان المتوقع كل الجهود التي بذلت قبل هذاالتاريخ، خسارة اقتصادية و سياسية و مائية تقدر بحوالي 4 مليار متر مكعب من الماء ستجعل ارتفاع الماء في شوارع القاهرة أكثر من خمسة سنتيمترات، لا أحد يعرف موضع العلة، و لا خطة واضحة تستطيع مواجهة الأمر، قال عبد الناصر : صدقى سليمان.
محمد صدقي سليمان من مواليد 7 سبتمبر 1919 من محافظة القليوبية وتوفي عام 28 مارس 1996م .. حصل على بكالوريوس الهندسة المدنية 1913. عمل ضابطا مهندسا بالقوات المسلحة( 1939م-1954م) الذى ساهم فى إنشاء مصانع الإنتاج الحربى و مصنع الحديد و الصلب و معظم مؤسسات القطاع العام ، ثم سكرتير عام مجلس الانتاج القومي ، ومدير عام المؤسسة الاقتصادية حتى 1961ثم أصبح وزيراً للسد العالي 1962م ، قرر ناصر إنشاء ( وزارة السد العالى) بقيادة صدقى سليمان كان هو وزيرها الأول و الأخير، سأله ناصر عما يحتاج إليه لإنقاذ الموقف، طلب سليمان شيئين، صلاحيات رئيس جمهورية و خط تليفون مباشرإلى مكتب رئيس الجمهورية.
اخترع سليمان مبدأ ( لا تقدم أوراق و لكن تكلم)، هجر مكتبه و بقى في أرض الميدان يستقبل الشكاوى بنفسه و يتخذ فيها قرارات على الهواء وهو يقف وسط قناة الأنفاق أو في مجرى التحويل أو على مقعد قيادة كراكة، أصدر قرارات بانتداب ضباط مهندسين، و ضم من انهى خدمة التجنيد إلى العمل، و إقامة معهد يقدم دورات تدريبية على العمل في السد، و قرار بأن تكون سنة الدراسة الأخيرة لطلبة الدبلوم الصناعى في أسوان على هامش العمل في السد، و عند بداية العمل عام 1960م كان هناك بلدوزر واحد في الموقع حارب سليمان حتى أصبح هناك أكثر من 70 بلدوزر بعد أربع سنوات. كان قرار سليمان أن يبدأ العمل في الخامسة صباحا وأن يكون آذان الفجر هو شارة بدء العمل، وكانت معنويات العمال محل أهتمامه، فقرر أنه لا ساعة عمل تزيد على الثمانى ساعات المقررة بدون مقابل، ولا تجاوز لمعدلات الإنجاز المطلوبة بدون مكافآة تشجيعية تبدأ بخمسة جنيهات إلى مئة جنيه، وفى الوقت نفسه لا يمر خطأ ولو صغير بدون عقاب. وضع سليمان قانونا جديدا ( لا راحة و لا إجازات حتى نهد الجبل )، ساعدته الروح التي بثها في المكان على تقبل الفكرة، ثم وضع لافتة كبيرة ( باقى من الزمن (…) يوما)، كانت تلهب حماس الجميع، و عوض غيابهم عن أهلهم بان خصص أماكن لإقامة أسر العمال المتزوجين مدعومة بجمعيات تعاونية استهلاكية، و سهل إجراءات نقل أبنائهم إلى مدارس أسوان، و لم ينس الحفلات الترفيهية التي كان أحياها معظم فنانى مصر، و كان يتابع شئون العاملين ومشاكلهم كبرت او صغرت بنفسه، هنا قرار لعلاج ابن عامل على نفقة الدولة، هنا يسرع لفك أسر عامل تم حبسه ظلما لاشتباهات سياسية، وبعد أن تزايدت معدلات الموت الخطأ قرر أن يكون هناك غطاء تأمينى لكل عامل من خمسمئة إلى عشرة آلاف جنيه…تم تحويل مجرى النيل في الموعد المحدد له، كان سليمان يقود هذا الأوركسترا الضخم بنجاح ويقول: علمنا بناء السد أن الصبر لا يكمن في الإستسلام للزمن و لكن في مقاومته. وعندما تم إقالة زكريا محيى الدين من رئاسة الحكومة بعد أن رفع سعر الأرز خمسة مليمات، وتم تعيين سليمان رئيسا للوزراء، أطلق ناصر على حكومته اسم ( حكومة الإنجاز) كان يراهن عليها في أن تقوم بنقلة تشبه تلك التي قام بها سليمان في موقع السد العالى، وفور وصول سليمان إلى مكتبه الجديد أصدر عدة أوامر، الأولوية في الدخول إلى مكتبه بدون سابق موعد هم العاملون في السد العالى، و بعد أن لمح كمية الهدايا التي تصل إلى مكتبه أصدر قرارا بعدم تلقى هدية تزيد قيمتها على جنيه واحد، ثم بدأ يدرس ويخطط لكن النكسة أصابت الحلم في مقتل و توقف كل شيء دون سابق إنذار.
في تلك اللحظة خاف سليمان على حلم السد، خاف أن تكسره الهزيمة، اعتذر عن رئاسة الحكومة و عاد إلى موقع العمل واعتبره ميدان معركة أخرى الانتصار فيها مسألة حياة أو موت، ظل يعمل حتى وقف ناصر في آخر خطاب رسمي له أمام أعضاء المؤتمر القومى للاتحاد الإشتراكى، وبعد ان وجه التحية إلى الحضور قال : ” تلقيت اليوم الرسالة التالية من السيد وزير السد العالى يقول فيها: بسم بناة السد العالى الذين تعهدوا بإنشاء محطة كهرباء السد العالى في العيد الثامن عشر للثورة تقديرا لفضلها في تنفيذه، أبلغ سيادتكم أن العمل في السد العالى على هذا النحو يكون قد أكتمل على أكمل وجه”.. ضجت القاعة بالتصفيق لدقائق طويلة، ثم رحل بعدها ناصر بأيام . كانت أولى قرارات السادات بعد أن أصبح رئيساً للجمهورية هي إلغاء وزارة السد العالى، والإكتفاء بوزارة للكهرباء تم تعيين شخص آخر مسئولا عنها، وعُهد إلى سليمان بإدارة الجهاز المركزى للحسابات، رفض سليمان بعد سنوات العمل بين الرمال أن يجلس في مكتب مكيف، اعتذر كثيرا لكن السادات أصر، وتولى سليمان مسئوليته الجديدة، وأعاد تأسيس هذا الجهاز وظل يرسل للسادات يوميا تقارير الفساد لكن السادات لم يهتم فاعتذر سليمان عن منصبه.
ثم جاءت لحظة الإفتتاح الرسمي للعمل في السد العالى، طلب السادات من وزير الكهرباء حلمى السعيد رفع اسم محمد صدقى سليمان من دعوات الحضور، وطلب منه ان يتجاهله لكن السعيد قاتل حتى يحظى سليمان بدعوة للحضور والتكريم، وافق السادات على مضض وعندما نودى على اسم سليمان في الحفل اكتشفوا أنه لم يحضر. اختار سليمان أن يبقى في بيته بعيدا عن الأضواء و المهاترات والمناصب، مرة واحدة خرج من بيته عندما طلبوا منه المساعدة في رسم الطرق التي سيتم شقها في خط بارليف بخراطيم المياه، والاستفادة من خبرته في هذه النقطة أثناء بناء السد العالى، قدم خبرته ثم عاد إلى البيت من جديد. أثناء العمل في السد زاره الكاتب الصحفى كمال القلش وتحدث سليمان معه عن معجزة بناة السد، وطلب في نهاية حواره توجيه الدعوة للأدباء والكتاب إلى الموقع، وعندما سأله الصحفى عن السر وراء توجية الدعوة لهذه الفئة تحديدا؟، قال سليمان: ربما عندما يتأملون الناس هنا و ما يقومون به قد يجدون فى الفن إجابة لسؤال مهم، الناس والسد العالى، من الذى بنى الآخر؟ وإلى لقاء آخر مع حلقة جديدة وصنايعي جديد.. طابا صباحكم.
بقلم Ahmed Alkady