يبدو أن د. يوسف زيدان يصر من حين لآخر أن يخرج علينا فاضحا لجهلنا بالتاريخ والجغرافيا، ففى لقائه الأخير مثلاً مع عمرو أديب أطلق الرجل قذائفه بيقين متعالي وهى عبارات يطلقها بكل ثقة تحمل من وجهة نظره حقائق يرى أنها غير قابلة للتكذيب أوحتى النقاش، وقد أطلقها الرجل في كل صوب، تارة ناحية مسألة عمرو بن العاص؛ منبهًا إيانا أن الإسلام لم يدخل مصر على الحقيقة إلا فى عصر الدولة الفاطمية!، وكأن الأئمة قبل ذلك كانوا خيالًا أو بعض الأساطير التي تروى، وتارة ناحية مصحف عثمان وكيف أننا نحن الجهلة السُذج لا نعرف أن مصطلح مصحف عثمان يرجع لرجل اسمه عثمان التركى الخطاط.
والحقيقة لأنى جاهل فلن أستطيع الرد وتفنيد ما تفضل به السيد يوسف زيدان فهناك من الأساتذة والباحثين من أهم أقدر منى وهى عليهم أيسر.
ولكنى سأتوقف قليلا عندما يواصل الرجل قذائفه الكاشفة الفاضحة لجهلنا كما يرى، فيؤكد بما لا يتيح مجالا للشك أن احمد عرابي هذا هو سبب الإحتلال البريطانى لمصر.
ولأن السيد يوسف زيدان عالم فذ، فما كان مني أنا الجاهل إلا أن أسأله عن العين الإنجليزية التى لم تغفل عن مصر منذ الحملة الفرنسية ورحيلها أيضاً ، وقد دخلت أراضيها بداعى تحريرها من الفرنسيين ولكنها ماطلت فى الخروج حتى خرجت عنوة تحت الضغط الدولي عام 1803.
ثم حاولت مرة أخرى فى عام 1807 فيما عرف تاريخياً بحملة فريزر وبالمناسبة لم يكن في مصر حينها احمد عرابي
، ثم مجهوداتها للقضاء على الأسطول المصري التركي فى عهد محمد على، ثم سعيها الحثيث للسيطرة الإقتصادية بالقضاء على سياسة محمد على الاحتكارية ثم ألاعيبها بعد مشروع قناة السويس ثم عزلها للخديو إسماعيل وقبلها ما تحالفت عليه مع الدولة العثمانية لتقليص عدد الجيش المصري.
يا سيد يوسف لقد احتلت بريطانيا الهند ردحًا من الزمن ولم يكن فى الهند احمد عرابي وقد احتلت فرنسا بلادا من المغرب العربي ولم يكن هناك احمد عرابي ، لقد قلت يادكتور أنه كان ساعيا للسلطة موهومها بها ، فياليته كان كذلك واستجاب لمطالب رفاقه بعزل الخديوي.
وذكرت أن واقعة 9 سبتمبر لم تحدث وأن هذا العرابي لم ير الخديوي أبدااااا
طيب لنتناقش يا سيدي
دعنا نستدعي شفيق باشا والذى وصل لمنصب رئيس ديوان الخديوى، ونستمع لشهادته عن ذلك اليوم، ففى عام 1881م أصدر الخديو توفيق أمرا إلى الآلاى السودانى إلى الاسكندرية وكان هذا الآلاى تحت قيادة عبد العال حلمى الذراع الأيمن لأحمد عرابى، فكان ذلك إضعاف لقوة العرابيين بالقاهرة.
وكما يذكر أحمد شفيق باشا فى الجزء الأول من مذكراته وكان شاهد عيان على هذه الأحداث :
أن العرابيين أعلنوا القيام بمظاهرة فى ساحة عابدين وتحديدا فى يوم 9 سبتمبر سنة 1881م، وقد ارسل عرابى إلى معتمدى الدول الأجنبية يخبرهم أن الجيش سيقوم بمظاهرة وليس فيها أدنى تعرض لمصالح الأجانب. وحاول الخديو منع نزول الآلاى السودانى إلى ميدان عابدين ولكنه لم يفلح.
ويكمل شفيق باشا:
رأينا الجيش قادما من جهة شارع عابدين؛ وقد اصطفت الجنود البيادة والسوارى والطوبجية فى أماكن بالميدان كانت مخصصة لكل سلاح من هذه الأسلحة – وقد منع احمد عرابى الدخول أو الخروج من سراى عابدين – ويكمل شفيق باشا : وتقدم احمد عرابى راكبا جواده شاهرا سيفه وخلفه بعض الضباط فنزل الخديو إليهم من قصره غير مكترث لما قد يتعرض إليه من الأخطار، وكان معه السير اوكلاند كلفن المراقب والمستر كوكسن قنصل انجلترا فى الاسكندرية النائب عن معتمد انجلترا، ولم يتبعه سوى اثنين من عساكر الحرس الخصوصى أحدهما حسن صادق، وكان ضخم الجسم فلما رأى احمد عرابى شاهرا سيفه، صاح به : اغمد سيفك وأنزل عن جوادك، فامتثل، ثم خاطبه الخديو بقوله : ما هى أسباب حضورك بالجيش إلى هنا. فرد احمد عرابى قائلا : جئنا يامولاى لنعرض على سموك طلبات الجيش والأمة. فقال الخديو : وماهى؟ فقال: هى إسقاط النظارة المستبدة وتشكيل مجلس نواب جديد وتنفيذ القوانين العسكرية التى أمرتم بها.
بعدها نصح المستر كلفن الخديو باللغة الانجليزية أن يعود للقصر وبقى كلفن يفاوض احمد عرابى ولكنه لم يسمع له قولا، بعدها أشار كلفن وكوكسن باجابه هذه المطالب لأنه لا حول ولا قوة له! – وهذا على حد وصف شفيق باشا -.
ويذكر لنا شفيق واقعة مهمة وخطيرة أيضاً عندما لجأ العرابيين قبلها إلى كسب الرأى العام بعد انضمام الجنود والضباط و الجنود المصريين إلى حركتهم، فانتشر فى ذلك الوقت أن العرابيين يوزعون المنشورات فى طول البلاد وعرضها، بل كانوا يرسلون مع هذه المنشورات توكيلات يوقع عليها الأهالى بأن احمد عرابى نائب عنهم فى مطالبهم الوطنية، وبلغ عدد الموقعين على التوكيلات 1600 تقريبا.
إذا صحت واقعة التوكيلات هذه فأنها أولا السابقة الأولى وتعتبر الثانية كما يري الباحث المصري أيمن عثمان فى توكيلات الزعيم محمد فريد للدستور ثم الثالثة فى ثورة 1919م، كأمتداد لنفس الفكرة؛ وثانيا تلفت النظر إلى محاولة العرابيين إشراك الشعب فى تحركاته، ولكن هذا لم يأتى بنتيجة كبيرة بسبب قلة الوعى والتعليم.
التوتونجى ..
التوتون هو الدخان ولفُّه ، والتوتونجي هو الشخص المسؤول عن لف ورص وتقديم الدخان للخديوي.
عقب دخول الانجليز للقاهرة وأَسْرِهم لعرابى وعودة توفيق لقصره، توسّل التوتونجى (كان اسمه إبراهيم أغا) إلى سيده الخديوى أن يأذن له بالدخول إلى احمد عرابى في مَحبَسه ليبصق عليه فأذن له الخديوى فَفَعَل .. ما رَفَعَت البصقةُ من شأن التوتونجى ولا حَطّت من قدْر احمد عرابى .
مات إبراهيم أغا منذ قرنٍ ونصف بعد أن أقطعه الخديوى قطعة الأرض المُسمّاة حالياً بحدائق حلوان ثمناً للبصقة ..
مات ولكن يبدو أن ذريته من التوتونجية الصغار قد شَبّوا عن الطوق بعد أن هجروا مهنة الدخان إلى الكتابة والشاشات، وبدلاً من لقب التوتونجى أطلقوا على أنفسهم ألقاباً أكثر شياكة مثل (الإعلامى الكبير) و(الكاتب الكبير) واتخذوا من التطاول على الكبار (الحقيقيين) مِهنةً خُرافية الدخل .. لم يتركوا شريفاً إلا تطاولوا عليه ..
وهاهُم يبصقون على احمد عرابى من جديد .. إنهم يبصقون علينا.
وسلامًا
المصادر
احمد عرابي أ. د محمد متولي أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة السويس
الزعيم أحمد عرابي محمود الخفيف
مذكراتي في نصف قرن أحمد شفيق باشا
مقال عن عرابي للأستاذ مصطفى شريف
مقال للأستاذ يحيي حسين عبدالهادي
بقلم طه محمود إسماعيل