in

إمارة باري الإسلامية في إيطاليا وحصار المسلمين لروما

إمارة باري الإسلامية في إيطاليا وحصار المسلمين لروما

إمارة باري

قلة من الناس تدرك التاريخ الإسلامي في ايطاليا لا سيما إمارة باري، ربما سمعوا بفتح صقلية أو سردينية، لكن كثيرين لم يدرسوا أو يعرفوا شيئًا عن الوجود الإسلامي الذي امتد لأجزاء أخرى من ايطاليا بل إنه وصل إلى مهاجمة ومحاصرة روما نفسها مرتين، وأن بابا روما اضطر لدفع الجزية في إحدى المرات.

نحن الآن في جزيرة صقلية وقد سيطر عليها الأغالبة حكام شمال إفرقيا أخيرًا بعد سلسلة من الغزوات بدأوها في زمن أميرهم زيادة الله بن إبراهيم سنة 827 م بقيادة القاضي أسد بن الفرات ذو السبعين عاما بناء على تحفيز من فيمي القائد البيزنطي الذي خشي عقاب الإمبراطور ميخائيل الثاني لحماقة جنسية قام بها، كانت الفتوحات والمناوشات من قبل تجاه الجزيرة تقوم بها أساطيل من مصر والشام والأندلس، تعود بداياتها إلى أزمان بعيدة، قديما إلى زمن الخليفة عثمان بن عفان.

السواحل الشمالية لصقلية لا تفصلها عن البر الإيطالي أكثر من خمسة كيلومترات فقط، استتب الأمر لدى الأغالبة في صقلية ولدى أميرهم أبو العباس محمد بن أبي عقال الأغلب رابع الأمراء، حالف الأغالبة إمارة (نابولي) عام 830 م وكانت تدفع إتاوة لإمارة (بينفتي) بعد أن نشبت بينهما حربا في عام 836 م ولما لم تجد إمارة نابولي من يعينها في أوروبا مدّت يدها لمحالفة العرب المسلمين.

بدأ الهجوم العربي بالإستيلاء على (برنديزي) عام 838 م بأسطول من غرب جزيرة كريت وشمال أفريقيا، فيما أرسلت البندقية أسطول من ستين قطعة حربية للدفاع عن الإقليم، حطمها المسلمون قرب (كروتوني) على خليج طارنت.

وفي عام 839 م سنحت الفرصة للتدخل، إذ قام صراع بين أميرين أراد كل منهما السيطرة على دوقية (نيفنتو) اللومباردية، استعان أحدهما وهو (راديلكس) بالأغالبة في صقلية، فيما استعان منافسه (سيكنولوف) بالأندلسيين.

احتل الأغالبة (طارنت) عام 840م وهي قاعدة بحرية مهمة في بحر (الأدرياتيك)، ثم خلفهم في ما بعد غرب جزيرة (أقريطش) عام 842 م وكان من نتائج انهزام البندقية، وتأسيس حكومة عربية إسلامية جديدة في (باري) واستيلاء عرب كريت على طارنت أن تعرّض البحر الأدرياني لغارات الأساطيل العربية.

في عام 846 م، نزلت قوات الأغالبة على ساحل أوستيا “الإيطالية Ostia” فهزمت القوات الموجودة فيها، ثم إن المسلمين ركبوا نهر الطيبر (التيفر- التيبر)، ثاني أطول أنهار ايطاليا، البادئ من سلسلة جبال توسكان المتدفق جنوباً، وفي نهايته يعبر روما قبل أن يصب في البحر المتوسط في منطقة أوستيا .. بركوبهم نهر التيبر تمكن المسلمون من الإغارة على ضواحي روما.

إثر وصولهم لروما في عهد أبي العباس محمد بن الأغلب، لم يقم المسلمون بمحاصرتها أو بمحاولة فتحها، حيث كانت أسلحتهم خفيفة، لكنهم هاجموا الأحياء المحيطية (من ضمنها حي الفاتيكان)، وكان يقع خارج الجدار الأورلياني آنذاك. عاد المسلمون بالغنائم من كنائس القديسين: بطرس، وبولس، ومن الفاتيكان نفسه، ومن الأحياء المحيطية للمدينة، لكنهم لم يدخلوا المدينة نفسها. يقال إن من بين ما غنموه تابوتاً من فضة من كنيسة مار بطرس. سرعان ما انسحبوا من هناك بعد اشتباكات مع قوات الإمبراطور لويس الثاني.

في السنة نفسها غزا المسلمون (جنوة)، ففتحوها، ويذكر أيضاً أن المسلمين حاصروا قلعة القديس آنج في غزوتهم المذكورة على روما، كما يشير شكيب أرسلان إلى أن المسلمين غزوا سواحل سيفيتة فكشيا بقرب روما قبل ذلك التاريخ بسنوات عدة.

استطاع القائد خلفون، وهو قائد عسكري من عشائر ربيعة قادم من صقلية أن يحاصر مدينة (باري)، إلا أن محاولة الاستيلاء على المدينة المحصنة لم تفلح في بداية الأمر. لكن وسط ضغط الحصار القوي، نفدت موارد المدينة واشتدت وطأة الجوع والحرمان على سكانها، إلى أن اكتشف المسلمون ثغرة في سورها، فدخل بها خلفون ومجموعة من جنوده وباغتوا الجنود اللومبارديين وهم نيام وفرضوا سيطرتهم على المدينة ونصب خلفون نفسه واليًا عليها، بهذه المغامرة تكونت دولة عربية إسلامية جديدة في ايطاليا عاصمتها باري تماثل الدولة التي تكوّنت في صقلية وعاصمتها (باليرمو).

بعد موت خلفون، تلاه الأمير مفرق بن سلام في الفترة من سنة 237-241 هـ/ 853-856 م فقام بغزو المناطق المحيطة بإمارته مثل بينيفنتو ومملكة (تليزي) وإمارتي(سبوليتو) و(ساليرنو)، كما تصالح مع أعدائه من الأمراء على أن يدفعوا له الجزية، أطلق أسرى المسلمين، وأصبحت (باري) في عهده مأوى للعديد من المسلمين الذين ازداد عددهم في المناطق الجنوبية من ايطاليا. كما بنى أول جامع كبير في وسط باري، حيث تشير المصادر الإيطالية إلى أن موقعه هو الكاتدرائية الحالية للمدينة.

بعد مفرق تولى سودان بين عامي 241-257/ 856-871 م فأعاد غزو دوقية بينيفنتو، وفي سنة 244 هـ/ 859 م استولى على مدن (كابوا) و(كانوزا) و(ليبوريا) لتوسيع إمارته، وتوجه بعد ذلك إلى دوقية (نابولي)، إلا أن انتشار مرض الكوليرا لم يعطه فرصة للتقدم أكثر من ذلك، وقد حاول الدوق لومبارت الأول أن يمنعه من العودة إلى باري لكن بعد معركة قوية انتصر على التحالف الذي أعده لومبارت له وتمكن من دخول مدينته.
في سنة 250هـ/ 864م استلم التنصيب الرسمي كوالي للمدينة من الخليفة المتوكل والذي كان قد طلبه سلفه. فزينت المدينة للإحتفال.

بين عامي 868-872 م زاد الضغط الإسلامي على السواحل الغربية لايطاليا فأغاروا على مدينتي (جايتا)، و(سالرنو)، كما أنزل الأغالبة بروما جيشاً قوياً في زمن الأمير محمد بن أحمد أبو الغرانيق فحاصروها هذه المرة بقوة، وأوشكت روما أن تسقط، أرسل البابا يوحنا الثامن إلى ملك الفرنجة الكارولنجيين، وإلى الإمبراطورية البيزنطية، وإلى مدن: (أمالفي)، و(جايتا)، و(نابولي)، يلتمس مساعدتهم، ولكنه لم يظفر بأي نجاح، بما جعله يضطر إلى دفع جزية قدرها خمس وعشرون ألف (25000) مكيال من الفضة.

ثم راحت انتصارات الأغالبة في الأراضي الإيطالية تتوالى بلا انقطاع، حصدوا كورسيكا وسردينيا وباري ونابولي ومالطا.

استمرت إمارة باري بمثابة شوكة في خاصرة الإمبراطور لودفيك الثاني وملجأ لعدد من منافسيه السياسيين، وأحدهم من دوقية سبوليتو فر إليها خلال التمرد. وكان لودفيك الثاني غير مرتاح من وجود دولة مسلمة بوسط ايطاليا، فشن حملة عسكرية لإسقاطها، وفي سنة 252 هـ/ 866 م ، قاد الإمبراطور تحالفاً مسيحيا ضم أمراء كل من “بينيفينتو” و”سبوليتو” و”نابولي” لمحاصرة الإمارة، لكنه لم ينجح لعدم امتلاكه أسطولًا بحريًا قويًا، الأمر الذي اضطره إلى الرجوع من حيث أتى، لكنه لم يغيّر عزمه رغم مرضه، فاستعان بمرتزقة من مسلمي الصقالبة وصربيا والقسطنطينية إضافة إلى مقاتلين جرمان وقراصنة كروات، حاصروا الإمارة مرة أخرى، وفي يوم الجمعة الثاني من فبراير سنة 871م الموافق 8 ربيع الأول 257 هـ، استطاع التحالف الكبير أن يقتحم أسوار “باري” بعد حصار دام أربع سنوات انتشرت فيها الأمراض وعانى سكانها نقص المؤن والعتاد.

استنجد سودان بالعباسيين والأغالبة دون جدوى.

وفقا للمؤرخ الإيطالي جوزيه موسكا أمر إمبراطور روما بذبح جميع الأسرى رجالًا ونساءً وأطفالًا، ولم ينج من المسلمين إلا أميرهم سودان الماوري الذي أُسر ونُكّل به وعُذّب حتى الموت.
كما يذكر في مقدمة كتابه (إمارة باري) أن العديد من المؤرخين الإيطاليين تجاهلوا إلى حد كبير فترة الحكم العربي التي عاشتها هذه الإمارة، كما أن المدونات التاريخية المتوافرة حالياً تعتمد في معظمها على ما كتبه الرهبان بعد انتهاء الإمارة، إضافة إلى أنها اتصفت بالتحيز ضد المسلمين وعدم ذكر الطفرة الحضارية والعمرانية التي شهدتها إمارة باري خلال فترة حكمهم.

انتهى الوجود الإسلامي في وسط ايطاليا بسقوط باري، فيما ظلت صقلية وباقي الجزر الإيطالية تابعة لحكم الأغالبة، ثم الفاطميين من بعدهم ردحًا من الزمن.‫إمارة باري الإسلامية في ايطاليا (847-871) وحصار المسلمين لروما قلة من الناس تدرك التاريخ الإسلامي …”

بقلم ‎‎رامي رأفت‎

Report

اخبرنا برأيك ؟

200 نقاط
Upvote

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *