in

رحلة أحمد بن فضلان الي بلاد الترك والروس و الصقالبة – من أدب الرحلات

رحلة أحمد بن فضلان الي بلاد الترك والروس و الصقالبة - من أدب الرحلات

رحلة أحمد بن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة هي رسالة تدون وقائع وأحداث ومغامرات ابن فضلان كما كتبها بنفسه إلى الخليفة المقتدر بالله، قام فيها بوصف بلاد الترك والبلغار والروس والخزر وأيضاً البلاد ألاسكندنافية، من أدب الرحلات المهم في التراث العربي، إذ كشفت تلك الرسالة فجوة كبيرة للماضي البعيد لتلك الشعوب، وقدّمت للروس إضاءة حقيقية لماضيهم البعيد، وأنارت في صفحات واسعة أساليب حياتهم في الزمن الغابر. في أمانة ودقة نادرين، لذلك فقد عنوا بترجمتها ونقلوا فصولاً عنها إلى لغتهم.

في تقديمه لابن فضلان ذكر المستشرق الالمانى فراهن: «إذا كانت الحضارة الغربية قد أغفلت روسيا فإن العرب تحدثوا عنها، ففد ألقى العرب الصوء كثيرا على تاريخ روسيا القديم، وقاكوا بسد الفراغات الناقصة، وخاصة عن البلغار وروسيا في العصور القديمة.».

وقد بدأ الاهتمام برحلة أحمد بن فضلان كم قبل المستشرقين الروس باعتبارها من المصادر النادرة لمعرفة الملامح الجغرافية لتلك المناطق الجغرافية في وقت لم يكن تاريخ روسيا و البلاد المجاورة لها معروف في العصور القديمة والوسطي، لذا تعتبر هذه الرحلة من أقدم ما تم تقديمه من معلومات خاصة عن بلغار الفولجا فليس هناك من سبق بن أحمد بن فضلان إلي هذه البلاد.

اسباب قيام بن فضلان بالرحلة

طلب ملك البلغار المعروف بأسم ألمش بن يلطوار بعد ارساله وفد للخليفة بإرسال بعثه دينية تقوم بنعليم أهل مملكته الدين الإسلامي، وتقوم ببناء جوامع هناك، وحصون لتحميهم من اعداءهم من الخزر وقد استجاب الخليفة المقتدر بالله للأمرين معًا.

وبذكر ابن فضلان ذلك في رسالته عن سبب البعثة بقوله: «لما وصل كتاب ألمش بن بلطوار ملك الصقالبة إلى أمير المؤمنين المقتدر يسأله فيه البعثة إليه مِـمَّن يفقّه في الدين، ويعرّفه شرائع الإسلام، ويبني له مسجداً، وينصب به منبراً ليقيم عليه الدعوة له في بلده وجميع مملكته، ويسأله بناء حصن يتحصّن فيه من الملوك المخالفين له، فأجيب إلى ما سأل من ذلك.»

وبالفعل سافر الوفد مكون من أربع أشخاص مصطحبين معهم رسول ملك البلغار ومعهم محترف بلغة الأتراك الغز بحكم أصله ومرور الرحلة ببلاد الأتراك، وكان ابن فضلان هو المسئول عن تسليم خطاب الخليفة والهدايا ومن بينها أدوية، ومع الوفد مجموعة من المعاونين للخدمة.

خط سير رحلة بن فضلان

استغرقت الرحلة 11شهرًا بين بغداد والبلغار، وللرحلة قيمة جغرافية لما اشتملت من حقائق عت مناطق مختلفة في طبيعتها التضاريسية والمناخية وفي نظم الحكم والديانات واختلاف الأعراق مما بوصح صعوبة الرحلة.

بدأت الرحلة من بغداد في يونيه 309هـ الموافق 921 م واتجهت شرقاً بشمال مارًا بإقليم الجبال ووصلت همذان والرىًّ وواصلت المسير شرقاً إلي نيسابور وكان الطريق إليها محفوفاً بالمخاطر لأنتشار العلويين في إقليم طبرستان وقد تنكر أعضاء الوفد في القافلة كمسافرين عاديبن ثم اتجهوا إلي بخاري وكان الطريق إليها آمنا، ومكثوا بها قرابة الشهر وفيها قابل أحمد ابن فضلان الجيهاني الذي كان وزيراً لملك خراسان وذلك في شهر سبتمبر ثم عادت القافلة إلي نهر جيحون الذي عبرته ثم سارت في النهر في سفينتين إلي خوارزم .

وهناك حاول حاكمها منعهم من مواصلة السير بالتخويف من دخول أرض الغز ولكنهم أصروا وقاموا بمواصلة السير إلي الجرجانية ومكثوا فيها حتى انتهي الشتاء ( من نوفمبر إلي فبراير 922م ) والمعروف في هذه  المنطقة تجمد مياه الأنهار لعشرة أسابيع، ومع بداية مارس اكملوا السير ولكن بعد أن تخلف منهم عدداً من الفقهاء والمعلمين والغلمان خوفاً من مخاطر السير بعد أن اختبروا قسوة الشتاء أو بسبب قلة الموارد المالية بعد أن تعذر نلقيهم لمبلغ 4 آلاف دينار كانت مقررة لهم من الخليفة كخراج ضيعة قريبة من خوارزم حتى يكملوا الرحلة. ومن بقوا مع ابن فضلان واصلوا السير فمروا عبر بلاد ما وراء النهر و بحر آرال في الشرق وبحر الخزر في الغرب جمهورية كازاخستان حاليا ثم واصلوا السير شمالاً حتى بلغوا العاصمة البلغار وقد قطعوا المسافة مابين الجرجانية ومدينة البلغار في 70يوماً.

بلاد العجم والأتراك

لا ينسى احمد بن فضلان وصفه الإثنوجرافي لشعوب الأتراك الغزية البدوية التي مر بها في رحلته، حيث يبدي أسفه على بقائهم على دين الوثنية «لهم بيوت شعر، يحلون ويرتحلون، وترى منهم الأبيات في كل مكان، ومثلها في مكان آخر، على عمل البادية وتنقلهم، وإذ هم في شقاء، وهم مع ذلك كالحمير الضالة لا يدينون لله بدين، ولا يرجعون إلى عقل، ولا يعبدون شيئاً، بل يسمون كبراءهم أرباباً… وأمرهم شورى بينهم، غير أنهم متى اتفقوا على شيء وعزموا عليه جاء أرذلهم وأخسهم فنفض ما قد أجمعوا عليه… وسمعتهم يقولون: لا إله إِلاَّ الله محمد رسول الله تقرباً بهذا القول إلى من يجتاز بهم من المسلمين.» ولا يغفل الجوانب الأخرى المتعلقة بسلوكهم الاجتماعي، ولا سيما علاقتهم بالمرأة، وعادات الدفن، فيذكر أنهم لا يهتمون بـ(عفة المرأة) ولا بستر (عورتها)، إذ نزلوا يوماً على رجل منهم ومعه امرأته « فبينما هي تحدثنا كشفت فرجها وحكته، ونحن ننظر إليها، فسترنا وجوهنا، وقلنا: “أستغفر الله”، فضحك زوجها وقال للترجمان: “قل لهم: تكشفه بحضرتكم فترونه، وتصونه، فلا يوصَل إليه، هو خيرٌ من أن تغطيه وتمكّن منه.» إلا أنهم لا يعرفون الزنا، ومن زنا منهم شقوه نصفين؛ أما رسوم تزوجهم، تقوم على أن يخطب الواحد منهم إلى الآخر بعض حرمه ابنته أو أخته بثوب خوارزمي، أو مقابل جمالاً أو دواباً، فإذا وافقه حملها إليه وإذا مات الرجل وله زوجة وأولاد، تزوج الأكبر من أولاده بامرأته إذا لم تكن أمه، ويذكر أن “أمر اللواط عندهم عظيم جداً، يقتلون من يمارسه”.

وإذا مرض الرجل منهم ضربوا له خيمة يبقى فيها منفرداً إلى أن يموت، وإذا كان فقيراً رموه في الصحراء وتركوه؛ وإذا مات حفروا له حفرة كبيرة كهيئة البيت، وألبسوه ثيابه، وتركوا له ماله وأشياءه، وإناء نبيذ، وأجلسوه في البيت، وجعلوا له قبة. كما لاحظ أن الترك كلهم ينتفون لحاهم إلاَّ أسبلتهم (=شواربهم)، فيعبر ابن فضلان عن استيائه من هذه العادة، إذ يقول: « وربما رأيت الشيخ الهرم منهم وقد نتف لحيته وترك شيئاً منها تحت ذقنه، فإذا رآه إنسان من بُعدٍ لم يشك أنه تيس.» أما السلطة، فإن ملك الترك الغزية يقال له يبغو، ومن عاداتهم أن الرجل لا ينزع عنه الثوب الذي يلي جسده حتى ينتثر قطعاً. ويتحدث عن البجناك ، وهم قبيلة تركية غزية، طردهم الغزُّ أمامهم، فوجدهم ينزلون على ماء شبيه بالبحر غير جار “وإذ هم سمر شديدو السمرة، حليقو اللحى، فقراء، خلاف الغزية” ثم يقف عند قوم من الأتراك يقال لهم الباشغرد ، فرأى فيهم “شر الأتراك وأقذرهم، وأشدهم إقداماً على القتل”، يأكلون القمل، ويعبدون أرباباً مختلفة: ومنهم من يزعم أن له اثني عشر رباً: للشتاء رب، وللصيف رب، وللمطر رب.. وهكذا.. والرب الذي في السماء أكبرهم، فيعلق قائلاً: “تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً”، ومنهم طائفة تعبد الحيات، أو السمك، أو الكركي.

الصقالبة البلغار

يمتاز أحمد بن فضلان بوصفه الإثنوغرافي لبلغار الفولغا بالدقة والإحاطة الشاملة، فلا يكاد يغفل عن أي شيء يمس حياتهم العامة والخاصة: السلطة، والدين، والسلوك الاجتماعي، والطقوس، فضلاً عن الأنواء، والظواهر الغريبة التي تحيط ببيئتهم وحياتهم. البلغار: هم شعب أسس دولتين الأولي وهي أقدمها في حوض نهر الفولجا الأوسط، وقد امتدت هذه المملكة المسلمة مابين جبال أورال في الشرق و نهر الفولجا في الغرب، ووصلت جنوبًا إلي بحر الخزر قزوين أو ما يقرب منه، وأما حدودها الشمالية فكانت إلي ما سماه القدماء أرض الظلمات التندرا ، والدولة الثانية للبلغار وهي الأحدث كانت في حوض نهر الدانوب ( الطونة ) فيما يعرف باسم بلغاريا ، وكلمة البلغار تطلق علي الشعب وعلي الدولة وعلي العاصمة التي تقع علي الضفة اليسري لنهر الفولجا وما زالت آثارها كأطلال باقية علي مقربة من مدينة قازان علي 6 كم من شاطئ الفولجا الأيسر، ويذكر ان ابن رسته في كتابه الأعلاق النفيسة أن أكثر البلغار مسلمون ولهم مساجدهم وذلك حول القرن الثالث الهجري.

السلطة عندهم

يذكر أن ملك الصقالبة اسمه (ألمش بن يلطوار)، وله مساعدون يدعوهم “الملوك الأربعة” كانوا مع الملك عند استقباله لهم، وكان الملك يصحبه أيضاً إخوته وأولاده يحملون “معهم الخبز واللحم والجاورس (نوع من الحبوب) وبعد مراسيم الاستقبال بساعة، دعاهم الملك فدخلنا إليه وهو في قبته، والملوك على يمينه، وأمرنا أن نجلس على يساره، وأولاده جلوس بين يديه، وهو وحده على سرير مغشى بالديباج الرومي..”، ثم يحدثنا عن عادات الطعام عند الملك، فعندما أُعدَّت المائدة لهم قدِّمت إليهم وعليها اللحم المشوي وحده، فتضمن طقس الطعام الملكي، أن يبدأ الملك بالطعام، وأن لا يبدأ الآخرون إلا بعد أن يقدم الملك بنفسه قطعة من الطعام لهم “فلا يمدُّ أحدٌ يده إلى الأكل حتى يناوله الملك لقمة”.

وَلَـمَّا أكلوا دعا (الملك) بشراب العسل وهم يسمونه السجو، فشرب قدحاً نخباً لخليفة بغداد، وهو يقوم قائلاً: « هذا سروري بمولاي أمير المؤمنين -أطال الله بقاءه.» وفعل ذلك ثلاث مرات وبما أن العقيدة الإسلامية لم تنغرس بعمق، لاحظ ابن فضلان أنه كان يُخطب على منابر جوامع البلغار، قبل قدومه “اللهم أصلح الملك يلطوار ملك البلغار” فنبه ابن فضلان الملك “أن الله هو الملك، ولا يسمى على المنبر بهذا الاسم غيره”، وذكّره أن منابر بغداد والشرق يقال فيها “اللهم أصلح عبدك وخليفتك الإمام المقتدر بالله”، فصار من حينها يُخطب لملك البلغار على المنابر “اللهم أصلح عبدك جعفر بن عبد الله أمير البلغار مولى أمير المؤمنين” ولاحظ أن الملك إذا ركب لا أحد يكون معه، فإذا اجتاز السوق لم يبق أحد إلا قام وأخذ قلنسوته عن رأسه فجعلها تحت إبطه، إذ إن كلهم يلبس القلانس، فإذا جاوزهم الملك ردوا قلانسهم إلى رؤوسهم؛ كذلك فإن كل من يدخل إلى الملك في مجلسه يأخذ قلنسوته تحت إبطه، وكل من يجلس بين يديه يجلس باركاً.

وكلهم يسكن القباب، إلا أن قبة الملك كبيرة، تسع ألف نفس وأكثر، مفروشة بالفرش الأرمني، وله في وسطها سرير مغشى بالديباج الرومي. ويشير إلى علاقة التبعية التي تربط البلغار بجيرانهم الخزر، إذ يضطر ملك الصقالبة على دفع ضريبة إلى ملك الخزر مقدارها جلد سمور عن كل بيت في مملكته. ويضع ابنه رهينة عند ملك الخزر، الذي تزوج ابنة ملك الصقالبة غصباً، على الرغم من أنه يهودي وهي مسلمة، ومن جهة أخرى فإن ملك الصقالبة يأخذ العشر من كل سفينة تجارية تأتي من الخزر، وإذا قَدِم الروس أو غيرهم من سائر الأجناس برقيق فالملك يختار رأساً من عشرة رؤوس. ويحدثنا أن فيهم تجار كثر، يخرجون إلى أرض الترك فيجلبون الغنم، وإلى بلد آخر يقال له (ويسو) فيجلبون منه السمور والثعلب الأسود. وإذا غزوا على بعض البلدان فللملك حصته فيها، كما أن في كل عرس أو فرح له قدر من الوليمة

السلوك الاجتماعي والديني

لقد عرف ابن رسته من قبل، دخول الإسلام إلى البلغار الصقالبة، غير أننا مع ابن فضلان ندخل ردهات الحياة الدينية اليومية للبلغار، إذ يصور لنا ما يتوافق أو يختلف مع الاعتقاد الإسلامي، فنجده غير راضٍ، بشكل عام، عن سطحية تمثُّل البلغار للمعتقد الإسلامي، وانعدام تجذره في سلوكهم؛ إذ رآهم يتبركون بعواء الكلاب جداً، ويفرحون به، لما يمثله لهم من دلالة على الخير فيقولون لبعضهم: “سنة خصبة وبركة وسلامة”، ويستغرب من رسومهم التي تقضي بأن يأخذ الجدُّ المولود دون أبيه، فيعطوا الحق للجد في حضنه حتى يصير رجلاً، وإذا مات منهم رجل ورثه أخوه دون ولده.

من هنا قول ابن فضلان « فعرَّفت الملك أن هذا غير جائز، وعرفته كيفية المواريث حتى يفهمها.» كما رأى أنه إذا وقعت صاعقة على بيت لم يقربوه تطيراً منه، وتركوه بما فيه من أنفس ومال حتى يتلفه الزمان، ويقولون عنه “هذا بيت مغضوب عليهم”. وإذا كانوا يعاقبون القاتل العمد بالقتل، وهو يتفق إلى حد ما مع المعتقد الإسلامي، فإن ما يثير استغرابه أنهم يعاقبون من قتل رجلاً خطأ، بدون قصد، بوضعه داخل صندوق وتعليقه حتى يبليه الزمان وتهب به الريح.

وأعار ابن فضلان موضوع المرأة انتباهاً خاصاً ولا سيما بعد أن رأى تخففها من ضوابط التقليد الإسلامي، فأثار استهجانه نزول الرجال والنساء إلى النهر ليغتسلوا جميعاً عراة لا يستتر بعضهم من بعض، فيقول « وما زلت أجتهد أن يستتر النساء من الرجال في السباحة فما استوى لي ذلك.»، إلا أنهم لا يزنون بشكل عام، ومن زنا منهم، كائناً من كان، ضربوا له أربعة سكك وشدوا يديه ورجليه إليها، وقطعوه بالفأس من رقبته إلى فخذيه، وكذلك يفعلون بالمرأة أيضاً، ثم تُعلّق كل قطعة منه ومنها على شجرة أما فيما يتعلق بعادات الدفن، فإنه يصفها بدقة ربما لأنها كانت تخالف طريقة الدفن الإسلامية، فإنهم يغسلون الميت على طريقة المسلمين، إلا أنهم يحملونه، إذا كان حراً أو من الرؤساء، على عجلة تـجرّه إلى مكان الدفن، حيث يضعونه على الأرض، ثم يخطّون حوله خطاً ويحفرون داخل ذلك الخط حفرة، ثم يجعلون له لحداً ويدفنونه في الحفرة.

ويُمنع على النساء البكاء على الميت، ويبكي الرجال الأحرار، أما عبيد الميت فيأتون إليه بعد ذلك فيضربون جنوبهم بالسيور، وينصبون له علماً على باب قبة قبره، ويأتوه بسلاحه، ولا يقطعون البكاء عليه خلال سنتين، فإذا انقضت السنتان حطّوا العلم وقصوا من شعورهم، ثم يدعون بدعوة إيذاناً بخروجهم من الحزن، ويحق لزوجته بعده الزواج ثانية. أما في حال الميت من العامة فيفعلون بعض هذا بموتاهم

معاشهم وغرائبهم

يلاحظ ابن فضلان أن أكثر البلغار مريض بداء القولنج حتى أن أكثرهم تختفي من وجهه الحمرة، ويلبسون جميعاً القلانس، وأكثر أكلهم الجاورس (نوع من الحبوب) ولحم الدابة، على أن الحنطة والشعير كثير لديهم، وكل من زرع شيئاً أخذه لنفسه، ليس للملك فيه حق، سوى ما يقدمونه له كل عام من جلد السمور. ويحفرون في الأرض آباراً ويضعون طعامهم فيها، فلا تمضي أيام حتى يتغير طعمه ورائحته، وليس لهم زيت أو دهن، سوى دهن السمك يعتمدونه في أكلهم.

ويعملون من الشعير حساء للجواري والغلمان. وفي غياضهم عسل كثير، وعندهم تفاح أخضر شديد الخضرة، وأشدّ حموضة من خلّ الخمر، تأكله الجواري فيسمنَّ عليه. ولم ير في بلدهم أكثر من شجر البندق، كما يوجد عندهم شجر مفرط الطول وساق أجرد الأوراق، يجيئون إلى موضع يعرفونه في ساقه فيثقبونه فيخرج منه ماء أطيب من العسل، إذا أكثر منه المرء أسكره؛ وعندهم أيضاً رمان أمليس (لا نواة له) لذيذ جداً ولا ينسى أن يحدثنا عن المناخ والطقس، وما يحتويانه من غرائب، فيلاحظ تفاوت الليل والنهار واختلافهم عما اعتاده في بلاده، لدرجة صار حائراً والتبست لديه مواقيت الصلاة، فالنهار لديهم طويل جداً، إذ أنه يطول عندهم مدة من السنة ويقصر الليل، ثم يطول الليل ويقصر النهار، ورأى في يوم إقامته الثاني أن الشفق الأحمر الذي قبل المغيب لا يغيب البتة، وإذا الليل قليل الظلمة يعرف الرجلُ الأشياء عن بعد. ورأى القمر لا يتوسط السماء، بل يطلع في أرجائها ساعة ثم يطلع الفجر فيغيب القمر. ورأى البلد عند طلوع الشمس يحمرُّ كل شيء فيه الأرض والجبال وكل شيء ويحدثنا عن عجائب، حرص أن ينسبها إلى غيره لغرابتها، رغم قوله: “رأيت في بلده من العجائب ما لا أحصيها” فهو يتحدث بلسان أحد أصحابه عن وجود حيوان غريب، هو دون الجمل في الكِبر وفوق الثور، وحوافره مثل أظلاف الثور، له في وسط رأسه قرن واحد غليظ مستدير، يرتقي ورق الشجر، إذا رأى الفارس ظل يلاحقه حتى يقتله، لذا فهم يصعدون إلى أعالي الشجر ليرموه بالسهام المسمومة لقتله.

ولعله بذلك يصف ما يسمى بوحيد القرن. كما يتحدث على لسان أحد الرجال عن شعب غامض يسميه يأجوج ومأجوج، ويبعد هؤلاء عن أهل (ويسو) ثلاثة أشهر، وهم عراة، يفصلهم البحر عن أهل (ويسو), وهم مثل البهائم ينكح بعضهم بعضاً. يخرج الله لهم كل يوم سمكة من البحر لطعامهم. كما التبس عليه رؤيته لبعض الظواهر المتعلقة بالشفق القطبي، فتخيَّل أنه يرى أمثال الناس والدواب في الجو، تأثراً ببعض المعتقدات المحلية الراسخة. كما يحدثنا عن لسان ملك البلغار عن شعب (ويسو)، وهو شعب فنلندي شمالي، ولعله كما يرى المستشرق فراهن شعب روسيا البيضاء، قرب موسكو الحالية، إذ يعلمه ملك البلغار أنه يبعد ثلاثة أشهر عن بلاده؛ والليل عندهم أقل من ساعة، يذهب إليهم تجار البلغار ليشتروا منهم جلود السمور والثعلب الأسود. فقدم لنا ابن فضلان صورة حية، عن مقطع من حياة البلغار قبل ألف عام، لا غنى عنها لأي مؤرخ لحياة وأصول شعوب شرق أوروبا، فجمعت رسالته بين أسلوب التقرير الرسمي وبين الدراسة الإثنوغرافية لحياة هذا الشعب.

الروس

لقد قام برحلته إلى بلاد الروس، أثناء بعثته التي قادته إلى بلاد البلغار، فكانت في أواسط القرن العاشر الميلادي، أي قبل عهد الملك فلاديمير، وكان الروس آنئذ لم يعتنقوا المسيحية بعد ويذهب مايكل كرايتون وأغلب المستشرقون الغربيون إلى أن ابن فضلان أطلق اسم روسية على السكان الذين التقاهم في بلاد الروس الحالية، ولكن هؤلاء الروس هم اسم قبيلة اسكندنافية، لذلك سماهم كريكتون في تحقيقه لرسالة ابن فضلان بـ النورديين، أو أهل الشمال، وهو يخالف رأي المستشرقين الروس الذين يعتقدون أنهم قبائل روسية أصلية السلوك الفردي والاجتماعي.

سلوكهم وعاداتهم

لا يختلف أسلوب ابن فضلان في تناوله للروس عن تقريره الخاص بحالة شعب البلغار، فهو لا يكتفي بالوصف السطحي للواجهة السياسية، بل يغوص لينقل لنا وصفاً إثنوغرافياً عن أساليب حياتهم المعاشية والدينية، وسلوكهم الاجتماعي والثقافي؛ فجمع لنا حسب أندريه ميكيل صورة نادرة عن هذه الأمة الغامضة والنائية، قبل أن تنتقل إلى المسيحية.

وهو يأخذ كل جانب من جوانب حياتهم الاجتماعية والثقافية على حدة ليصدر حكمه عليه استناداً إلى المقاييس القيمية التي اكتنزها، فهناك الجانب الذي يثير الإعجاب، وجانب يثير منه الاستغراب أو الاستهجان، فلكل جماعة بشرية حسب مفاهيمه مواقعها المنيرة وجوانبها المظلمة، فهو يصف بإعجاب “لم أر أتم أبداناً منهم كأنهم النخل، شقر حمر، مع كل واحد منهم فأس وسيف وسكين لا يفارقه، وسيوفهم صفائح مشطبة إفرنجيـة” ثم يراقب بدقة سلوكهم وعاداتهم، وأحياناً يصف ذلك بحيادية، فيها نوع من الاستغراب، فهو رآهم ينزلون بتجارتهم على نهر آتل لا يلبسون القراقط، ولا الخفاتين، ولكن يلبس الرجل منهم كساء يستر به أحد طرفي جسمه، ويخرج إحدى يديه منه. والواحد منهم ينقش جسمه من ظفر رجله إلى رقبته صور مخضرة بالشجر وغير ذلك، وتضع المرأة على ثدييها حقة (=وعاء) مشدودة من حديد أو فضة أو نحاس أو ذهب، على قدر مال زوجها، وعلى عنقها أطواق من ذهب وفضة، يرتبط عددها بحجم ثروة زوجها، وأجلَّ الحلي عندهم الخرز الأخضر من الخزف لكنه أحياناً، يصدَم بسلوكهم الاجتماعي، ولا سيما فيما يخصُّ العلاقة بين الجنسين، حيث يختفي التستر و”العفة” من جهة، وهو سلوك خاص بمجتمعه الثقافي-الديني، أو ما يخص النظافة والطهارة وما اعتاده من طقس إسلامي بهذا الخصوص، ففي البيت الواحد يجتمع عشرة أو عشرون شخصاً، لكل واحد منهم سرير يجلس عليه، ومعهم رفيقاتهم الجميلات، فينكح الواحد منهم جاريته، ورفيقه ينظر إليه، وربما يدخل عليهم تاجر فيصادف أحدهم ينكح جاريته “فلا يزول عنها حتى يقضي أربه”، ويعبر عن صدمته لخروجهم عن طقس “الطهر” والنظافة الإسلاميين بقوله: “وهم أقذر خلق الله، لا يستنجون من غائط أو بول، ولا يغتسلون من جنابة، ولا يغسلون أيديهم من الطعام، بل هم كالحمير الضالة، يجيئون من بلدهم فيرسون سفنهم بآتل، وهو نهر كبير، ويبنون على شطه بيوتاً كباراً من الخشب” ويصف بتقزز عاداتهم اليومية بغسل وجوههم ورؤوسهم بأقذر ماء فيقول: « ولا بد لهم في كل يوم من غسل وجوههم ورؤوسهم بأقذر ماء يكون وأطفسه وذلك أن الجارية توافي كل يوم بالغداة ومعها قصعة كبيرة فيها ماء فتدفعها إلى مولاها فيغسل فيها يديه ووجهه وشعر رأسه فيغسله ويسرحه بالمشط في القصعة ثم يتمخط ويبصق فيها ولا يدع شيئاً من القذر إلا فعله في ذلك الماء فإذا فرغ مما يحتاج إليه حملت الجارية القصعة إلى الذي إلى جانبه ففعل مثل فعل صاحبه ولا تزال ترفعها من واحد إلى واحد حتى تديرها على جميع من في البيت وكل واحد منهم يمتخط ويبصق فيها ويغسل وجهه وشعره فيها »

الدين والسلطة عند الروس

يلاحظ أن ديانتهم ترتبط بمعاشهم وبحاجاتهم الاجتماعية، وبتلبية هذه الحاجات، فعندما يرسون بسفنهم على شاطئ نهر آتل، يأتون بها ببضائعهم للإتجار بها، جواري وسمور؛ فيخرجون ومع كل واحد منهم خبز ولحم وبصل ونبيذ، يتجهون إلى خشبة منصوبة لها وجه يشبه الإنسان، وحولها صور صغار، وخلف تلك الخشبة خشبة طويلة أخرى تنصب في الأرض، هي مقدسة عندهم، فيأتي تاجرهم إلى الصورة الكبيرة ويسجد ويتضرع لها، علّها تسهّل له أمر بيعه لتجارته، فيقول لها: “يا ربِّ قد جئت من بلد بعيد، ومعي من الجواري كذا وكذا رأساً، ومن السمور كذا وكذا جلداً”. فيذكر جميع ما عنده من تجارة، ثم يقول: “وجئتك بهذه الهدية”، فيترك هديته لها وينصرف، فإن تعذرت تجارته أعاد الطقس نفسه وقدَّم هدايا أخرى. فيعمد إلى ذبح غنم وبقر ويطرحها على الخشبة الكبيرة والصغار التي حولها، فإذا أتت الكلاب عليها في الليل، يقول: “قد رضي ربي عني وأكل هديتي”.

ولفت ابن فضلان النظر إلى عقوباتهم المعتمدة في تقاضيهم، فهم يجازون السارق بنصبه على شجرة غليظة، وبشده من عنقه بحبل يعلقوه فيها، حتى يتقطع بفعل الرياح والأمطار. وإذا مرض الواحد منهم نصبوا له خيمة، وتركوا معه خبراً وماءً، لا يقربوه ولا يكلموه، فإذا برئ رجع إليهم، وإن مات أحرقوه، وإذا كان مملوكاً تركوه للكلاب وجوارح الطير. ويغلب على الصورة التي يقدمها ابن فضلان عنهم، لون البداوة، وحياة الحرب والقسوة، والتخفف من قيود الحشمة والتعفف فيما يتعلق بعلاقتهم بالنساء، فملك الروس يحتفظ بجواره دائماً بأربعمائة رجل من صناديد أصحابه، وأهل ثقة عنده “ومع كل واحد جارية تخدمه وجارية أخرى يطؤها، يجلسون تحت سرير سيدهم، المرصع بنفيس الجواهر، ويجلس مع الملك على تخته أربعون جارية لفراشه، وربما وطئ الواحدة منهن بحضرة أصحابه  وهو لا ينزل عن سريره، حتى أنه يقضي حاجته في طشت يقدَّم إليه، وله خليفة يقود الجيش ويحارب الأعداء ويخلفه في رعيته”

طقس الدفن عند الروس

يعرض ابن فضلان في صفحات مطولة مشاهد الدفن، التي تبدو أنها أثارت لديه انفعالات متضاربة، ففي هذه المشاهد من الغرابة والألم والسمو واللامعقول والدلالات الغريبة، التي تبدو برمتها غير مألوفة لديه، لدرجة الصدمة. لقد سمع أن الروس يفعلون بملوكهم عند الموت أموراً غريبة بما فيها الحرق، فأراد أن يكون شاهداً مباشراً على وقائع دفن أحد الموتى من رجالهم الأجلاء، كما حرص أن يدوّن لنا المشاهد بكل تفاصيلها، فامتزج في وصفه الإحساس العميق بأن مشهداًأليماً يحدث أمامه مباشرة بمشاعر الاستغراب والتعاطف والأسى. فمن عاداتهم أن يضعوا الرجل الفقير الميت في سفينة صغيرة ويحرقونها، أما الرجل الغني فيقسمون ثروته، فثلثها لأهله وثلثها يخيطون له بها ثياباً وثلث للنبيذ الذي يشربونه يوم تقتل جاريته نفسها وتموت مع مولاها.

فأراد ابن فضلان أن يقف على إحدى تلك الحالات، فلما مات رجل جليل وضعوه في قبره حتى يخيطون له ثيابه، وسألوا جواريه: من يموت معه؟ فتقدمت إحداهن، فوكلوا لها جاريتين لتهيئانها لهذا الحدث الجليل؛ ويقضون هذه الفترة بشرب النبيذ ليلاً ونهاراً، وربما مات الواحد منهم والقدح بين يديه. فلما كان اليوم الذي يُحرق فيه الميت والجارية حضر ابن فضلان إلى النهر حيث السفينة التي يتم فيها الحرق، فجاءوا بسرير فوضعوه على السفينة وغشّوه بالمضرَّجات (=المساند) والديباج الرومي ومساند الديباج الرومي، وتولَّت امرأة عجوز تُسمى ملك الموت أمر فرش السرير، وأحضروا الميت من القبر إلى السفينة، وألبسوه ثيابه الجديدة، وأدخلوه القبة التي في السفينة، وأجلسوه على المساند وبجانبه النبيذ والفواكه والريحان، وخبز ولحم وبصل طرحوه بين يديه، وبسلاحه، وبدابتين وبقرتين وديكاً ودجاجة قطعوها وألقوا بلحمها على السفينة.

والجارية التي نذرت نفسها للموت معه تذهب وتجيء وتنتقل من قبة إلى قبة، حيث يضاجعها الرجال ويقولون لها: “قولي لمولاك إنما فعلت هذا من محبتك” فلا يتوقف ابن فضلان عن تعقب التفاصيل، فيأتون بالجارية ويحملونها على أكفهم حتى تشرف على باب السفينة ثلاث مرات، فتقول في المرة الأولى: هو ذا أبي وأمي، وفي الثانية: أرى جميع قرابتي الموتى قعوداً، وفي الثالثة: هو ذا أرى سيدي قاعداً في الجنة، ثم يأتي دور المرأة العجوز، التي تلعب، حسب وصف ابن فضلان، دور العراف والشامان المقدس، والتي تسمى ملك الموت والمكلفة بقتل الجارية، فتدفعها إلى السفينة، وتدفع إليها قدحاً من النبيذ، فتغني وتشربه، بعدها تدخِلها إلى القبة التي فيها سيدها، وهناك يدخل ستة رجال، فيجامعوا الجارية ويضجعونها إلى جانب مولاها. وتجعل العجوز في عنق الجارية حبلاً تدفعه إلى اثنين من الرجال ليجذباه، ثم تقبل ومعها خنجر فتدخله في أضلاعها حتى تموت، والرجال في الخارج يضربون على التراس ليحدثوا ضجيجاً يمنع سماع صوتها لكى لا تخاف الجوارى الاخرى الموت مع سادتهم، ثم ينتهي المشهد بإشعال السفينة من قبل أقرب الناس إلى الميت، ثم يبادر الجميع بإلقاء الخشب المَحرَق، فتأخذ النار في الحطب ثم السفينة ثم القبة والرجل والجارية وجميع ما فيها.

ثم بنوا على موضع السفينة، ونصبوا في وسط البناء خشبة كبيرة، كتبوا عليها اسم الرجل واسم ملك الروس وانصرفوا. هذه رواية شاهد عيان حية، يلاحظ المؤرخ وجود عادة الدفن والحرق المتبعة لدى الروس القدماء وعند الصقالبة والأتراك أيضاً، وربما جاءت عادة السفينة من العالم الاسكندنافي، وتذكِّر الموكبات الموسيقية بعادات سويدية أو صقلبية؛ أما موت المرأة الإجباري فشائع عند أمم عديدة مثل الأسقونيين والأتراك والمغول والبلغار والجرمانية والصقالبة؛ ويُعرف دفن الميت جالساً في آسيا الوسطى؛ أما دفن أغراضه معه فشائع عند الصقالبة والبلغار والأتراك، وقد يشابه ملكة الموت عندهم آلهة الموت الجرمانية هيل. لقد امتزج في وصف ابن فضلان لهذا الحدث الجليل، الإحساس بمرارة ومأساوية الحدث الذي تبدى أمامه بالتعاطف، وأيضاً بالدهشة والغرابة، فنحن هنا أمام ارتطام مرجعيتين ثقافيتين لا تلتقيان إلا بتلك الرغبة بالخلود، والارتفاع عن اليومي إلى ذروة التعالي، وإن كان هنا يجري -حسب ابن فضلان الفقيه المسلم- بطريقة خاطئة، ولقد كان حاضراً في وجدانه أثناء وصفه للمشهد، هذا الافتراق في القيم والمرجعيات التي تؤسسها، فلا ينسى أمام وقوفه عند تفاصيل الموت أن يتذكّر ما جرى من حوار بينه وبين أحد الروس، عن طريق المترجم، وهم ينظرون إلى السفينة وهي تحترق، إذ قال له الروسي: “أنتم يا معشر العرب حمقى”، فقال ابن فضلان: لم ذلك؟ قال الروسي: “إنكم تعمدون إلى أحب الناس إليكم وأكرمهم عليكم فتطرحونه في التراب، وتأكله التراب والهوام والدود، ونحن نحرقه بالنار في لحظة فيدخل الجنة من وقته وساعته” ، وضحك ذاك الروسي ضحكاً مفرطاً، فسأله ابن فضلان عن السبب، فقال: “من محبة ربه له يقصد الميت قد بعث الريح حتى تأخذه في ساعته”. ولكن هذا الحوار بالتأكيد لم يقرِّب أسس الفهم بينهما، لذا كان الروسي مبتهجاً لحدوث التعالي أمامه، بينما كان ابن فضلان كدراً مهتزاً في أعماقه لمشهد بدا له مروعاً وأليماً! الأول رأى في الحدث جسراً للعبور إلى الأبدي، والثاني رأى فيه حدثاً تمتزج فيه القوة واللامعقول بالألم

الخزر

لقد تعرَّف العرب على الخزر عن قرب، فقد التقينا بهم مع ابن رسته وكان مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية قد طاردهم إلى شمال الدربند، واحتل حاضرتهم آتل، إلا أنهم عادوا وتحصنوا في ما وراء جبال القفقاس ورداً على الضغط الإسلامي من قبل العباسيين من جهة، والضغط المسيحي من قبل بيزنطة، اختارت النخبة اليهودية ديناً لها، وفشلت محاولات بيزنطة السياسية تارة والتبشيرية تارة أخرى في دفعها إلى المسيحية حيث لم تنجح جهود القديس (كيرلس) في صرفهم عن اليهودية فقد تهودت هذه الدولة في عهد هارون الرشيد، واستمرت في مناوشتها للإسلام، وتحالفها مع بيزنطة حتى انهيارها، ولعل اليهود الأوربيون وعلى الأقل يهود أوروبا الشرقية يرجعون بأصولهم إلى هذه الدولة بعد تمزقها، ولا يمتون بأية صلة أقوامية وسلالية إلى ما سمي بني إسرائيل وقد حصل عند العرب بعض اللبس في أصول الخزر، فلم يكن هناك إجماع على أصولهم التي يرجعها البعض إلى أصول تركية، رغم أن ما يروى عن أديانهم ومؤسساتهم السياسية تجد ما يشابهها عند الشعوب التركية. أما ابن فضلان فيربطهم بعلاقة غامضة بالأتراك، ويركز في وصفه لهم الوجه السياسي، فيستغرق في وصف الملك ووظائفه وسلوكه أكثر مما يعطينا صورة عن الحياة اليومية للخزريين.

فملك الخزر يسمى عندهم (خاقان) أو الخاقان الكبير، لا يظهر للجمهور إلا كل أربعة أشهر حفاظاً على ما يبدو على المهابة، وله خليفة أو نائب يسمى (خاقان به) يقود الجيوش ويسوسها ويدبر أمر المملكة، ويقدّم كل إشارات الطاعة للخاقان الأكبر فلا يدخل عليه إلا حافياً وبيده حطب يوقده بين يديه، بعدها يجلس على يمين سريره، ويخلفه رجل يقال له كندر خاقان، ويخلف الأخير رجل يقال له جاوشيغر. وإذا مات الخاقان الأكبر الملك الأكبر يبنى له دار كبيرة فوق نهر، ويجعلون القبر فوق ذلك النهر، ويقولون: حتى لا يصل إليه شيطان ولا إنسان ولا دود ولا هوام”. وإذا دُفن ضربوا أعناق الرجال الذين دفنوه، حتى لا يُدرى مكان قبره. ولملك الخزر خمسة وعشرون امرأة من أبناء الملوك المجاورين، وإذا ركب ركب معه سائر الجيوش، ويكون بينه وبين المواكب ميل، ويخرُّ له ساجداً كل من صادفه في طريقه، ومدة ملكه أربعون سنة فإذا تجاوز هذه المدة قتلته رعيته وخاصته بحجة أنه سيعاني نقص في عقله بعد ذلك. ويشير إلى بسالة جيوشهم، فإذا بعث الملك سرية لم تولِّ الدبر بوجه ولا سبب، فإذا انهزمت قُتل كل من تراجع، فأما إذا انهزم القواد أو خليفة الملك، أحضر الملك نساءهم وأولادهم ووهبهم إلى غيرهم، ومعهم دوابهم ومتاعهم وسلاحهم وبيوتهم، وربما علقهم بأعناقهم في الشجر. وتقع مدينة ملك الخزر على جانبي نهر آتل، وعلى أحد الجانبين يقطن المسلمون وفي الجانب الآخر الملك وأصحابه، وعلى المسلمين رجل مسلم من رجال الملك يقضي في أمور المسلمين. وهناك أيضاً جماعات من النصارى، والوثنيين، فالخزر مجتمع تعددي تهيمن عليه نخبة حاكمة يهودية

عودة الرحلة إلى بغداد

ليس ذلك معلوماً بعد أن امتدت يد الضياع إلي الرحلة ومن المتصور أن الرحلة لم تلبث كثيراً في البلغار وعادت أدراجها بنفس الترتيب والبعد الزمني لمراحل الطريق أي تصل إلي الجرجانيه أو خوارزم قبل حلول فصل الشتاء لعام 922 م ثم تمكث هناك حتى يبدأ الربيع فتعود إلي بغداد في أوائل الصيف عام 923 م

اهمية الرحلة

ارتدت رسالة ابن فضلان أهمية خاصة، لا سيما أنها تضيء مرحلة غامضة لتاريخ بعض الشعوب كروسيا وبلغاريا والبلاد الاسكندنافية، أي في الفترة التي بدأت تتعرف بها على المسيحية، ولا يزال قسم منها على الديانة الوثنية، وغارقاً في التقاليد القديمة، فابن فضلان -كما يشير إلى ذلك كراتشكوفسكي قدَّم لنا صورة حية للظروف السياسية في العالم الإسلامي، والعلاقات بين بلاد الإسلام والبلاد المتاخمة لها في آسيا الوسطى، والأصقاع النائية التي كانت تمثل أطراف العالم المتمدن آنذاك مثل حوض نهرالفولغا، وتحفل رسالته بمادة إثنوغرافية قيّمة جداً ومتنوعة بصورة فريدة وهي تمسُّ عدداً من القبائل التركية البدوية القاطنة في اسيا الوسطى، وعدداً من الشعوب التي كانت تلعب دوراً سياسياً في تاريخ أوروبا الشرقية، كالبلغار والروس والخزر ولقد اصبحت رسالة ابن فضلان مصدراً من أهم المصادر عن تاريخ الأقطار التي زارها وعن صورتها الجغرافية وحيا السكان الاجتماعية ولا تزال تدرس في كل المدارس الروسية ويتحدث “أندريه ميكيل” عن فضل ابن فضلان على تاريخ روسيا، بقوله: “وقد جمع في رحلته جملة معلومات نادرة عن هذه الأمة الغامضة جداً والنائية”

ويمكن القول: أن ابن فضلان قد كتب وثيقة استثنائية لا تتعلق بالبلغار وحدهم، بل بالخوارزميين والغز والبجناك والجفرد، بالإضافة إلى بعض المعلومات عن الروس والخزر، وإن كان العمل يتركز على البلغار، أو الصقالبة على حد تسمية ابن فضلان لهم ولقد حافظت الرسالة على قيمتها بالنسبة لتاريخ الروس وبلغار الفولغا إلى الآن. ولقد ارتبطت تلك الرحلة منذ البداية بمهمة سياسية عليا للخلافة العباسية في بغداد، التي بقيت محافظة على هيبتها الكبرى في العالم الخارجي، وعلى مهابتها الروحية داخل دار الإسلام، رغم انحسار نفوذها السياسي في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، وهذا يفسر كثرة الوفود التي قصدت بغداد لعقد الصلات والتحالفات ولإظهار الولاء. من هنا نفهم قدوم وفد من الصقالبة البلغار، وهم من سكان شمال أوروبا على أطراف نهر الفولغا وعاصمتها على مقربة من قازان الحالية، طالبين العون من الخليفة المقتدر بالله في المجالين السياسي والديني

أثر الرحلة في كتابات الجغرافيين العرب

قرأ الرحلة واعتمد عليها كل من الإصطخري و ابن رسته و المسعودي و الجيهاني ، ويرجع الفضل إلي ياقوت الحموي في إظهار رسالة ابن فضلان من خلال النصوص التي ذكرها في المعجم وقد قال بأن الرحلة كانت معروفة ومدونه ومشهورة في ايدي الناس وانه رأي منها عدة نسخ متداولة في عصره في بلاد العجم والترك ، وإذا كان ياقوت الحموي له تعليقات قاسية فيجب أن نأخذ في الاعتبار كون الرحلة رائدة وهناك فاصل زمني نحو ثلاثة قرون وقد شهدت توافر معلومات جديدة. ويكفي أن ابن بطوطة حين زار بلاد البلغار لم يستطع أن يتجاوزها شمالاً إلي أرض الظلمة سيبريا لأن السير علي الجليد يتطلب عجلات صغار تجرها كلاب كبار ، ولا يدخلها إلا الأقوياء من التجار الذين يكون لأحدهم مائة عجلة موفرة بالطعام والشراب والحطب ، وذكر أن قيمة الكلب 100 دينار وأن السير في هذه الأرض أربعون مرحلة ، وأن التجار يتركون بضائعهم ثم يعودون في الغد فيجدون السمور والسنجاب والقامم فإن رضي صاحب المتاع ما وجده إزاء متاعه أخذه ن وإن لم يرضه تركه فيزيدونه ، وربما رفعوا متاعهم ، وهذا هو بيعهم وشرائهم ( أي التجارة الصامتة كما عند الجماعات البدائية في وسط أفريقيا أقزام الكونغو مع رعاه السافانا ، وبين الهنود الحمر والأوروبيون )

الجدل حول رسالة بن فضلان

يعود الفضل لـ ياقوت الحموي في تعريف المستشرفين والباحثين برحلة ابن فضلان من خلال الفقرات والمقاطع التي أوردها في كتابه الشهير معجم البلدان، ما شد انتباههم ودفعهم للبحث والتنقيب عن مخطوطته الأصلية. أتت جهود المستشرقين والباحثين أكلها وعُثر في عام 1817 م على قسم من مخطوطة ابن فضلان في روسيا، نشرته أكاديمية سان بطرسبورغ باللغة الألمانية عام 1923 م وفي العام التالي عثر مهاجر روسي من جمهورية بشكيريا متخصص في الدراسات التركية والفلسفة على أهم نسخة لرسالة ابن فضلان في المكتبة الملحقة بضريح الإمام علي بن موسى الرضا بمدينة مشهد الإيرانية. التطور الأبرز بالنسبة للمستشرقين والدارسين حصل عام 1937 حين أهدت الحكومة الإيرانية الاتحاد السوفييتي نسخة من مخطوطة مشهد. هذه المخطوطة النفيسة ترجمت وحققت في عام 1939 تحت إشراف وتعليق الأكاديمي الروسي كراتشكوفسكي. يحاول بعض الباحثين التأكيد على أن رحلة ابن فضلان وبعثته لم تكتف بالوصول إلى نهر الفولغا بل ذهبت أبعد من ذلك ووصلت إلى مشارف القطب الشمالي في المنطقة الاسكندنافية. ويبدو أن ذلك جاء بتأثير القصص الخيالية التي أضافها البعض إلى هذه الرحلة الفريدة. ويعد الروائي والسينمائي الأمريكي مايكل كريتشتون من أهم من أضاف على مخطوطة ابن فضلان مدعيا الاعتماد على مصادر خاصة غامضة. كريكتون كتب رواية خيالية عام 1976 بعنوان أكلة الأموات زاعما أنها تحوي النص الكامل لرسالة ابن فضلان. الرواية الأمريكية نقلت أحداث رحلة ابن فضلان من ضفاف نهر الفولغا وجعلت من منطقة الدول الاسكندنافية وتحديدا السويد مسرحا لها وفي عام 1999 أُنتج شريط سينمائي حمل اسم المحارب الثالث عشر من وحي رواية أكلة الأموات لقي شهرة واسعة وإقبالا كبيرا.

اسلوب احمد بن فضلان

لقد امتاز ابن فضلان بوصفه الدقيق بأسلوب ممتع شائق، لا زلنا ننعم بعد مضي ما يزيد على ألف عام بالصور التي نقلها عن عادات تلك الشعوب وتقاليدها، وحياتها الأخلاقية في ذلك العصر. وكان دقيق الملاحظة، يسجل أكثر مِـمَّا يريده السائح، فيصف الحكم والأمراء، ورجال الشعب على حد سواء، كما يرسم الهيئة والوجود على إيجاز رسالته وقصرها. وامتاز ابن فضلان عمن سبقه، بأنه وضع العلاقة الأساسية بين المكان والزمان، التي سوف تصبح في وقت لاحق صفة من الصفات التي تميّز الرحلة، كما نراها عند ابن جبير، وابن بطوطة فرسالته كانت نوعاً متوسطاً بين الجغرافية والتاريخ، فهي كالجغرافية تهتم بالمكان بعد أن تعيد تنظيمه على معايير زمنية يختص بها التاريخ . فضلاً عما تتسم به تلك الرسالة من وصف إثنوغرافي لحالة الشعوب فقد وضع ابن فضلان في مقدمة اهتماماته حال الإنسان العادي: سلوكه، وعاداته، وتقاليده، ودياناته، وطقوسه الحية، والمظاهر الأخرى لاعتقاداته، ولا ينسى أفراحه وأتراحه، وطرائق زواجه، وتربيته، وطقوسه في الدفن والموت، فضلاً عن اهتمامه بمنشأ السلطة والسلطان، ومظاهر العمران الأخرى إن وجدت، وتأثير الطقس، ومظاهر العجائب والمدهش في حياة تلك الشعوب

في السينما

المحارب الثالث عشر (بالإنجليزية: The 13th Warrior)‏ ،إخراج جون مكتيرنان وبطولة أنتونيو بانديراس في دور أحمد بن فضلان وفلاديمير كوليتش في دور (بياولف) وعمر الشريف. المحارب الثالث عشر كان مخيب للأمال في صندوق التذاكر، حيث لم يحقق إلا 61,698,899 دولار فقط على مستوى العالم.

الرواية التي يقوم عليها الفيلم هي من وحي خيال ريتشارد فري بعد ترجمته لرحلات ابن فضلان الحقيقية وأسفاره حتى نهر الفولجا في القرن العاشر

الفيلم واجه بعض الصعوبات من أجل تحقيق مناخ تاريخي واقعي، مثل استخدام اللغة العربية، والسويدية والنرويجية والدانماركية واليونانية واللاتينية في الحوار.

Report

اخبرنا برأيك ؟

200 نقاط
Upvote

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *