ميجيل دي ثربانتس 1547 – 1616 وهو أديب أسباني قد يماثل في قيمته الأدبية للأسبان ما يماثله شيكسبير للإنجليز، وقد عمل إضافة للكتابة في مجال جباية الضرائب حيث أن الكتابة وحدها لم تكن تكفي كمصدر للدخل.
تعرف دون كيشوت على أنها أول رواية أوروبية حديثة، وقد يقال بأنها أول رواية على الإطلاق، إلا أن هناك شكوكاً تدور بأن الرواية الأولى هي “الحمار الذهبي” لكاتبها لوكيوس بوليوس. وعلى جميع الأحوال تعد الدون كيشوت من الإرهاصات الأولى في كتابة الرواية الاوروبية الحديثة.
يقال بأن روائع الأدب العالمي أربع: الإلياذة لهوميروس، الكوميديا الإلهية لدانتي، دون كيشوت لميجيل دي ثربانتس، وفاوست لجوتة. وقد سبق أن قرأتُ من هذه الكوميديا الإلهية ولي عودة في ذلك.
تشكل دون كيشوت صراعاً وجودياً مهماً في تاريخ الإنسانية بين مثالية دون كيشوت ومادية سانشو بنثا، ولربما أول ما يتبادر للذهن حين تأتي كلمة الدون كيشوت في الذهن هي السخرية وطواحين الهواء !
لقد كتب ميجيل دي ثربانتس هذه القطعة الأدبية في فترة من حياته قد وصل فيها اليأس مع ميجيل دي ثربانتس إلى منتهاه. وكانت السخرية هي بمثابة رد الفعل التي واجه فيها ميجيل دي ثربانتس العالم في أواخر حياته.
في أمثال هذه الأعمال العتيقة. تكون الترجمة مسألة حرجة، فقاريء شيكسبير على سبيل المثالية في لغتها الأصلية سيجد صعوبة في فهمه، وقد كانت ترجمة عب دالرحمن بدوي لدون كيشوت بشكل يمكن وصفه بالمثالية، إلا أنه اعتمد لغة تقارب اللغة الأصلية للنص بالعربية، فبدلاً من قول حصان غير أصيل اختار لفظ “البرذون” وغيرها الكثير الكثير من الألفاظ غير الشائعة،
لكن، لستُ أرى في هذا من بأس، فقاريء نصوص كهذه عليه أن يتوقع شيئاً مقارباً لمثل هذه اللغة ولا أعتقد بأنه يخفى على أي أحد أهمية اللغة في النصوص القديمة لدرجة قد تقارب أو تفوق المتن ذاته أحياناً. فحين قرأتُ الكوميديا الإلهية لم ألحظ ما يمكنني تسميته بالمذهل أو الرائع، فكل ما شاهدتُ هو وصف الجحيم. ناهيكَ عن كون النص لم يكن شعراً كما هو الحال مع النص الأصلي فقد ارتأى المترجم أن يضعه نثراً ولم يكتبها حتى بما يشابه الشعر ولو في الشكل !
ومن المهم هنا أن نتفهم كون مثل هذه اللغة موجودة في مثل هذا السياق فهي لا تعد كنوع من الإستعراض، لكنها كذلك حين نجدها في رواية حديثة أو تأتي في موضوع لا يوحي بالإختصاص أو يتحدث عن فترة زمنية حديثة. ولربما صدف لبعضنا أن قرأ لبعض هؤلاء المستعرضين هذه الأيام.
أتفهم تماماً ذلك الأثر الذي تركته الدون كيشوت في زمانها، بكل تلك السخرية من كتب الفروسية السائدة حينذاك وكل شيء آخر في ذلك الزمان! فميجيل دي ثربانتس لم يكد يترك شيئاً حتى سخر منه وانتقده أشد الإنتقاد، من الحكم ورجال الدولة إلى رجال الدين، والطبقات كلها، ويمكن للقاريء أن يمس مواضع حياة ميجيل دي ثربانتس نفسه في الدون كيشوت، فيرى الحرب التركية التي شارك فيها وخسر فيها يده، ويرى فيها حياته التي قضاها في الجزائر أسيراً، وروما التي عشقها ميجيل دي ثربانتس.
لربما أشد ما لا يزال يصلح في زماننا هذا من هذه الملحمة الساخرة هو ذلك الصراع بين المثالية والمادية، بأبسط أشكالها، وبغض النظر عن كل تلك السقطات الفنية –المألوفة في بدايات العمل الروائي- إلا أنه لا يمكن التغاضي عن تلك المفارقات التي قد تكون تمارس أمامنا حتى اليوم.
فكم من دون كيشوت يتم قمعه يومياً –حتى لو بيننا وبين أنفسنا- لصالح أمثال سانشو بنثا، ومن المدهش ولربما من المفارقات المثيرة للإهتمام هي فترة حكم سانشو بانثا والتي كانت وبشكل مفاجيء “حكيمة” بشكل غير متوقع، فكيف يصبح هذا الإنتهازي الإستغلالي، ذلك الحاكم حكيما فجأة، لدرجة أنه لم يسعَ في سبيل صالحه الخاص في شيء على غير عادته. ولربما نعزو ذلك إلى عدم نضوج النظرة النفسية لميجيل دي ثربانتس كما سبق أن أشرنا كخطأ فني من الأخطاء الفنية الكثيرة في النص ككل وكسائر الأعمال الروائية في بدايات ظهور الرواية كنوع أدبي.
الحكاية باختصار، هي عن نبيل أسباني يجن من كثرة قراءة كتب الفروسية ويقرر أن يصبح فارساً جوالاً –متأخراً في ذلك ثلاث قرون عن زمن الفروسية- ويقنع جاره سانشو بانثا في أن يكون مرافقه وحامل أسلحته، وبينما تكون الرواية كلها تقريباً في محاولات أهله بالإحتيال عليه لإرجاعه مما يضع دون كيشوت في مغامرات فروسية كما كان يتمنى بالضبط.
لا يمكنني أن أخفي أنني تذكرتُ نوادر جحا من التراث الأدبي العربي وفي واقع الحال، إن دون كيشوت بحق تتشابه مع الحكايات الشعبية العربية وهذا أمرٌ ليس بالغريب لإطلاع ميجيل دي ثربانتس على الأدب العربي بحكم الجوار وبحكم حياته التي قضاها في احتكاك مع العرب. بكل تأكيد إن نوادر جحا كانت مسلية في طفولتي، لكنني لن أتصور نفسي أعيد قراءتها اليوم وفيما يقارب الـ 1000 صفحة كما هو الحال مع الدون كيشوت.
إن دون كيشوت هي دون شك أحد مفاخر الأدب الإسباني اليوم، وهي خلاصة تزاوج ثقافات كثيرة، بحس ساخر لاذع سابق لأوانه، وفي ذات الوقت كتب بلسان عصره.
باختصار، قد يكون هذا النص أحد أهم النصوص الأدبية الإنسانية في التاريخ، لكنه وكما هو الحال مع الكوميديا الإلهية لدانتي أحد تلك الكتب التي لن أفكر في إعادة قراءتها يوماً ما.
بقلم د.محمد حمدان