كان يحلو لي في سنوات الصبا والشباب ان اجلس علي كرسي فوق رصيف صغير في شارعنا عند باب دكان جعله صاحبه مكتبا يستقبل فيه الناس ويدير اعماله. ولم اكن احب الجلوس داخل الدكان فكنت اخرج منه كرسيا واجلس علي الرصيف لمشاهدة تيار الحياة في هذا الشارع الصاخب الذي يتمثل في حي عابدين.
لقد كان حي عابدين في الجيل الماضي من اهم احياء القاهرة بسبب وجود قصر عابدين والملك فيه. كانت تسكنه طبقة الباشوات وغيرهم ممن يعملون في القصر.
وبعد سنين طويلة لم تفارق ذاكرتي هذه الصور ومازالت شخوصها ماثلة في خيالي وبعض هذه الشخصيات المجهولة تأسرني وتعود بي الي ذكريات قديمة ومنهم:
خليل أغا، كان اشهر اغا في مصر، الخادم الخاص للخديوي اسماعيل وكان مقربا الي للولدة باشا. وقد اشترك الخديوي ووالدته الاغداق علي خليل اغا حتي اصبح من كبار الاثرياء في مصر. وله اوقاف هائلة وهناك في حي القلعة عمارات سكنية معروفة كان يملكها وله مدرسة باسمة في العباسية وشارع في جاردن سيتي.
كان الخديوي يلبس خليل اغا علي مزاجه لانه خادمه الخاص الذي يقدم له القهوه. وقد اختار له الزي الرسمي وهو البدلة الاسطمبولي السوداء ذات الازرار المقفوله حتي العنق والقميص الابيض ذو الياقة المنشاة والاسورة وتوضع فيها زراير ذهبية وتظهر الياقة فوق السترة كما يضع في قدمه حذاء من جلد الاسود اللامع وعلي راسة طربوش قصير بلا زر علي ان يناسب احمرار الطربوش لون خليل اغا الاسمر.
وانتشرت موضة الاغوات في قصور الباشوات تقليدا للخديوي. ولكن هؤلاء الباشوات لم يستطيعوا تقليد زي خليل اغا الذي انفرد به الخديوي. وكانوا يلبسوهم بدلات الردنجوت القديمة التي خلعوها مع القميص الابيض والبيبون او رابطة العنق العادية.
وكانوا يعدون للاغا دكة خشبية يجلس عليها عند ابواب القصور في حي عابدين. وكانت وظيفة الاغا هي استقبال الضيوف من الرجال والنساء والدخول بهم الي القصر حتي يوصلهم الي سيده او سيدته ثم يعود الي الجلوس علي الدكة.
وكان اشهر باشوات حي عابدين في تلك الايام هو سعيد ذو الفقار باشا كبير الامناء في قصر عابدين. وكان قصره في شارع قولة وعند بابه اغا يرتدي الردنجوت وبيده عصاه.
ويبدو ان العصا كانت من الضروريات في عمله لا من اسباب اناقته او تميزة بل لان هؤلاء الاغوات يتعرضون لعبث صبيان الشارع. فيهب الاغا واقفا يلوح لهم بعصاه.
والشي العجيب ان هؤلاء الاغوات كانوا لا يذكرون اسماءهم وكان الناس ينادونهم باسم اغا. ولم نعرف إلا خليل اغا. اشهر واحد من ابناء هذه الطائفة بعد كافور الاخشيدي الذي كان له مع المتنبي وقائع شهيرة سجلها الشاعر في قصائده.
المصدر حرافيش القاهرة /عبد المنعم شميس