الشدة المستنصرية ( ١٠٦٥- ١٠٧١) المجاعة القاتلة التي حلت علي مصر
سميت بهذا الإسم لأنها حدثت في الدولة الفاطمية عهد الخليفة الفاطمي المستنصر بالله (الخامس) و الذي استمرت خلافته قرابة ال ٦٠ عاما، عندما وصل الخليفة المستنصر الي الحكم كان الرخاء يعم مصر وفاض علي بقية الدول الاسلامية واستمر هذا الرخاء ١٧ عاما دون انقطاع، و يرجع ذلك الي انشاء الحكومة قبل وفاة الخليفة الظاهر لما يعرف بالمخازن السلطانية وهي مخازن لتخزين القمح والغلال وتوزيعها علي الشعب بأسعار مخفضة لمواجهة جشع التجار و القضاء علي السوق السوداء و كانت تلك السنوات هي الهدوء الذي يسبق العاصفة حيث بدأت المأساة عام ١٠٦٥، ارتفعت الأسعار بسبب خلو مخازن السلطانية و نتيجة انشغال رئيس الوزراء عنها بسبب مهامه الكثيرة بين الوزارة والقضاء.
كما ضعفت شخصية الخليفة و فقد السيطرة علي من حوله من الوزراء فكثر تغيير الوزراء و انتشرت الفوضي و لسوء الحظ أيضاً نقص منسوب مياة النيل حتي بارت الارض وانتشرت الامراض وبدأت الشدة المستنصرية وهي سبعة سنوات عجاف تشابهت مع سنوات نبي الله يوسف العجاف و سميت هذه السنوات السبع بالغلاء العظيم، فقصور نهر النيل الذي وصل ارتفاعه الي ٢ ذراع جعل الزراعة تتوقف لإنعدام الماء وتفشي الوباء.
وتكالبت الأوبئة المميتة حتي عمت مصر والشام، فإذا حل هذا الوباء في بيت يموت اهل البيت كلهم في ليلة واحدة و قيل ان هذه الأوبئة أبادت ثلثي مصر وكان الخليفة المستنصر يتحمل تكاليف تكفين ٢٠ الف متوفي يوميا حتي افتقر هو نفسه شخصيا.
و توقفت الصناعة والتجارة بل انعدمت وتصحرت الارض و هلك الحرث والنسل و انتشرت السرقات والسطو المسلح والأنفلات الأمني وادي انفلات الأمن الي انفلات الجيش الذي تفكك تحت التحزب والتشرذم و اشتد القحط والجوع، ووصل الحال بأن الناس اصبحت تآكل الجيفة والميتة والقطط والكلاب و روث البهائم من فرط الجوع، فكان سعر الكلب ٥ دينار والقطة ٣ دينار ورغيف الخبز ١٥ دينار وهو مبلغ كبير جدا، والكثير من الحرائر لجأووا في ان يبيعوا أولادهم وبناتهم كعبيد وجواري و جلب منهم الكثير في هذه الفترة الي العراق و خراسان.
و كان الرجل احيانا يقتل ابنه ليأكل لحمه، وكانت تصنع الخطاطيف لإصطياد المارة في الشارع و تراجع سكان مصر لأقل معدل يذكر في تاريخها كله، اما الخليفة المستنصر نفسه فقد باع ممتلكاته ولم يبقي معه الا غلام واحد و حمار هزيل يركبه، اما أسرته فقد هاجروا من مصر لإنقاذ انفسهم من الجوع، وكانت اول مظاهرات نسائية في العالم هي في مصر قامت بها المصريات في عهد الخليفة المستنصر نتيجة هذه المجاعة وكانت نتيجة هذه الازمة هو:
- انه أخذت دولة المستنصر في السقوط
- و خرجت الكثير من البلاد عن سلطانه فعادت بغداد الي الخلافة العباسية
- و تداعي حكمه ايضا في بلاد الشام
- و خرجت طرابلس من سلطان الفاطميين
لكن كما يقولون من قلب الظلام انبثق النور ومن رحم المعاناة تولد الامل وعاد النيل مرة اخري في السريان حول مصر و قبلها ظهر والي عكا بدر الجمالي الذي استدعاه المستنصر و وولاه وزارة مصر فتحسنت أحوال مصر علي يديه بفعل سياسته الاقتصادية الحكيمة وتحسن حال مصر رويدا رويدا.
وقد رسم المقريزي بقلمة المبدع حالة مصر إبان تلك الشدة قائلا :
(( فنزع السعر وتزايد الغلاء وأعقبه الوباء حتي تعطلت الأراضي من الزراعة وشمل الخوف وخيفت السبل برا وبحرا وتعذر السير إلي السير إلي الأماكن إلا بالخفارة الكثيرة وركوب الغرر.
واستولي الجوع – كما ألمحنا من قبل – لعدم القوت حتي بيع رغيف خبز في النداء بزقاق القناديل من الفسطاط كبيع الطرف بخمسة عشر دينار وبيع الإردب من القمح بثمانين دينارا وأكلت الكلاب والقطط حتي قلت الكلاب فبيع كلب ليؤكل بخمسة دنانير وتزايد الحال حتي أكل الناس بعضهم بعضا وتحرز الناس فكانت طوائف تجلس بأعلي بيوتها وعها سلب وحبال فيها كلاليب فإذا مر بهم أحد ألقوها عليه ونشلوه في أسرع وقت وشرحوا لحمه وأكلوه .
ثم آل الأمر إلي أن باع المستنصر كل ما في قصرة من ذخائر وثياب وأثاث وسلاح وغيره وصار يجلس علي حصير وتعطلت دواوينه وذهب وقاره وكانت نساء القصور وتخرجن ناشرات شعورهن تصحن (( الجوع الجوع )) تردن السير إلي العراق فتسقطن عند المصلي وتمتن جوعا واحتاج المستنصر حتي باع حاية قبور آبائه وجاءه الوزير يوما علي بغلته فأكلتها العامه فشنق طائفة منهم فاجتمع عليهم الناس فأكلوهم وأفضي الأمر إلي أن عدم المستنصر الوقت )) [ المقريزي إغاثة الأمة وايضا اتعاظ الحنفا ] .
ويقول النويري : (( … وكثر الوباء بالقاهرة ومصر حتي ان الواحد كان يموت في البيت فيموت في بقية اليوم أو الليلة كل من بقي فيه وخرج من القاهرة ومصر جماعة كثيرة إلي الشام والعراق وأكل بعض الناس بعضا … ومن جملة ما بلغ من أمر الغلاء أن امرأة كان لها حلي باعت ما يساوي ألف دينار بثلاثمائة دينار واشترت به حنطة فنهبت منها في الطريق فنهبت فحصل لها ما جاء رغيفا واحدا [ نهارية الارب ]
وإنه لمن السذاجة أن نعزو سبب تلك الأزمة الاقتصادية – التي لم يشهد التاريخ الاسلامي كله نظيرا لها – إلي مجرد توقف الفيضان سبع سنوات متوالية ونغفل عن خطايا السياسه الفاطمية وأنانية الخلفاء الفاطميين [ معالم تاريخ المغرب والاندلس حسين مؤنس ]
فقد كان من الممكن اتقاء الآثار المدمرة لتلك الازمة أو علي الأقل التخفيف منها لو كان الفاطمييون أوفر حكمة وأعظم حرصا علي مصالح الرعية ولكنهم بسياستهم العوجاء أذكوا الصراع بين طوائف الجند وأفراد النخبة الإدارية والسياسية حتي غدت مصر مسرحا لحرب أهلية قذرة – سواء في بواعثها أو أدواتها – لا تكاد تهدأ حتي تشتعل من جديد فتعمق من آثار الأزمة وتبلتع جزءا من عمران البلاد وثرواتها البشرية والمادية.
وقد فطن مؤرخو مصر الإسلامية إلي تلك الحقيقة حين حملوا السياسة الفاطمية المسؤلية الكاملة عن تلك الشدة فالنويري يقول :
(( ولم يكن هذا الغلاء عن نقص النيل وإنما كان لاختلاف الكلمة وحرب الأجناد وتغلب المتغلبين علي الأجناد وكان النيل يزيد ويهبط في كل سنة ولم يجد من يزرع الآراضي وانقطعت الطرقات برا وبحرا )) [ نهاية الأرب ].
ويقول المقريزي : (( ثم وقع في أيام المستنصر الغلاء الذي فحش أمره وشنع ذكره وكان أمده سبع سنين وسببه ضعف السلطنة واختلال أحوال المملكة واستيلاء الأمراء علي الدولة واتصال الفتن بين العربان وقصور النيل وعدم من يزرع ما شمله الري )) [ إغاثة الأمة ] …