لن يمر أسبوع أدب عالمي قبل أن أكتب عن رواية أولاد حارتنا قد يستهجن البعض دس تلك الرواية هنا في وسط مراجعات عن الأدب العالمي ولكني والحق اقول لكم أعتبرها بحق رواية عالمية وقد شكلت جزء من وجداني المبكر. إن رواية أولاد حارتنا هي ببساطة رواية تقرأ ثم تقرأ من جديد، مع كل إعادة قراءة ستجد فيها عنصر جديد فات على الذهن فى القراءة السابقة.
يقول جورج طرابيشي في كتابه الله فى رحلة نجيب محفوظ الرمزية، نجيب محفوظ يعيد كتابة تاريخ البشرية واصفا لرواية أولاد حارتنا الذي كتب عنها أضعاف عدد صفحتها نقدا و سلبا و مدحا.
يخلق لنا نجيب محفوظ عالم موازى ليعيد فيها تمثيل تاريخ العالم، بحارة محدودة جغرافيا وعدد سكانها قليل ليكون بمثابة مسرح إعادة تخليق تاريخ الله/الانسان المشترك بكل تفاصيله المعقدة.
يفاجئك نجيب محفوظ بقصة سريعة الإيقاع من الصفحة الأولى و سطور قليلة يلقيك بعدها فى مشهد تولى ادهم للمسؤولية دون ادريس، تتعجب قليلا من مفاجأة محفوظ لك دون تحضير للمشهد التاريخي الأهم لكنك سرعان ما تدخل فى اجواء القصة فى هدوء متجاوزا روتين المقدمات المعتاد.
و ربما ليس من المنطق أن نقول أن أدهم هو رمز لـ آدم، بل إن ادهم هو آدم بكل ما فيه و العلاقة بين آدم وأدهم وثيقة تامة وليس فى تباعد رفاعة/المسيح، جبل/موسى، قاسم/محمد، عرفة/العلم … ففى كل الخيوط الدرامية التالية يعطينا نجيب محفوظ القدر الكافى فقط لنربط بين شخصيات حارته التي لا يفوق عدد الذباب فيها سوى عدد القمل و بين أنبياء العصر السابق بينما فى ثنائية ادم/ادهم فالوضع ابسط واوضح.
أدهم الذى لم يفهم قط لم فضل هو على ادريس و لم فضل همام على قدرى و لم يحظى صاحب التفضيل دوما بالكوارث المفاجأة دون البركة المتوقعة؟! والذي لم يتخل قط عن حلمه فى الحديقة الغناء و رضا الجبلاوى عنه بالرغم ما مر به و الذى لم يحصل على طعم السعادة ابدا بعد مأساة قدرى و همام سوى فى لحظة واحدة خاطفة عندما أعلن الجبلاوى الرضا عنه.
فى ثلاثية جبل/رفاعة/قاسم يجرى الأمر سلسا، معلومات كافية للقارئ ليربط ذهنيا بين أولاد الحارة و الانبياء … محاولات دائمة للانتصار على الضعف و الجبن و الظلم و نبوت الفتوات، مرات بالقوة كحالة جبل و قاسم و مرة بالحب فى حالة رفاعة، يتبعه نجاح مؤقت و سعادة قصيرة ثم انتكاسة و تعاسة دائمة …ليكون تاريخ حارة الجبلاوى شريط من السواد يحوى نقط قصيرة من النور.
شريط طويل من الظلام والظلم يكون فيه الحال على حاله، الجبلاوى صامت منعزل، الفتوات يجرى النبوت فى ايديهم أكثر من الكلمات فى لسانهم, الناس هائمين كالسحاب شائعين كالذباب لا يساوي دم احدهم اكثر من كلمة تطلق على لسان الِفتوة، والكل يصرخ أين الجبلاوى؟ و الكل يقتل أو يموت فى انتظار الرد، و فى الخلفية دائما صوت الشاعر يحكي حكاية أدهم و بؤسه و جثة رفاعة على يد الجبلاوى و نبوت جبل يكسر جمجمة الظالم.
إلى هنا فالأمر واضح، فَرفاعة و جبل و قاسم هم الأنبياء! لكن ما أن يصل عرفة إلى القصة يرتبك القارئ، هل عرفه نبي جديد من خيال نجيب محفوظ ؟ هل يرمز به للحسين؟ من هو ذلك الشاب الجديد الذي تبدأ قصته و إلام يرمز؟
إنه عرفة ذلك المشكك التعيس لا تبهره قصص الشعراء ولا يهتم بالوقوف، يتساءل عن جدوى الجبلاوى و عن سبب ابتعاده ووحده يملك الجرأة ليصل إلى الحقيقة.
الحكايات غامضة كهذا البيت المغلق, لا أثر في الحياة إلا رؤوس أشجار الجميز و التوت، و اى دليل على حياة الجبلاوى الا الاشجار و الحكايات؟! هكذا يعبر عرفة فى بساطة …. و كما كان صابر فى الطريق حين سأل عن جدوى ضياع عمره فى البحث عن والد قبل أن يتأكد من وجوده، فتجيبه امه انه لن يتأكد من وجوده إلا بالبحث! …. كانت رحلة عرفة فى البحث عن الجبلاوى!
وأخيرا تصل القصة إلى الذروة التي ترسل قشعريرة باردة فى جسم القارئ حين يعلن موت الجبلاوي، ربما لم يقتله عرفة لكنه يتسبب فى ذلك بشكل او باخر.
لكن رسالة الجبلاوى قبل موته هو أنه راض على عرفه!
أظن أن ما يريد نجيب محفوظ ايصاله لنا أن العلم قد يخطئ الدرب، قد يكون سند للسلطة الظالمة احيانا او يفقد انسانيته و قد يتسبب حتى فى موت الدين لكنه لا يمكن أن يكون مبغوض عند الله لأن العلم اليوم هو نبي الانسانية الجديد بعد انتهاء عصر الانبياء و به وحده يمكن إرجاع العدل و ان الشئ المطلوب منه عند الدين هو فقط ان يرجع الى الإنسانية ومكارم الأخلاق.
وبالبحث عن كراسة عرفة تنتهي قصة حارة لم تنته أبدا، قصة إنسانية عانت فى ما لا يمكن تلخيصه فى كتب، إنسانية لم تفقد الأمل قط حتى فى أحلك فترات الظلام،تثق فى قدوم الحلم ثقة أدهم فى الرجوع للحديقة و ثقة رفاعة فى قوة الحب و ثقة جبل فى قوة الحق و ثقة قاسم فى قوة العدل
بقلم محمد السيد